الطــــــــب النبـــوي

الجزء الثاني

 هديه صلى الله عليه وسلم:

 في علاج ذات الجنب

في علاج الصداع والشقيقة

في الحمية

في علاج الرمد بالسكون ، والدعة ، وترك الحركة ، والحمية مما يهيج الرمد

في علاج الخدران الكلي الذي يجمد معه البدن

في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب ، وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها

في علاج الأورام ، والخرجات التي تبرأ بالبط والبزل

في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم

في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده

في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية

في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود

 في علاج السحر الذي سحرته اليهود به

في الإستفراغ بالقئ

في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين

 

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج ذات الجنب

روى الترمذي في  جامعه  من حديث زيد بن أرقم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت " .

وذات الجنب عند الأطباء نوعان : حقيقي وغير حقيقي . فالحقيقي : ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع . وغير الحقيقى : ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات ، فتحدث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقي ، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود ، وفي الحقيقي ناخس .

 

قال صاحب  القانون  : قد يعرض في الجنب ، والصفاقات ، والعضل التي في الصدر ، والأضلاع ، ونواحيها أورام مؤذية جداً موجعة ، تسمى شوصة وبرساماً ، وذات الجنب . وقد تكون أيضاً أوجاعاً في هذه الأعضاء ليست من ورم ، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العلة ، ولا تكون منها . قال : واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقاً من مكان الألم ، لأن

معنى ذات الجنب صاحبة الجنب ، والغرض به ها هنا وجع الجنب ، فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه ، وعليه حمل كلام بقراط في قوله : إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام . قيل : المراد به كل من به وجع جنب ، أو وجع رئة من سوء مزاج ، أو من أخلاط غليظة ، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى .

 

قال بعض الأطباء : وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان ، فهو ورم الجنب الحار ، وكذلك ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة ، وإنما سمي ذات الجنب ورم ذلك العضو إذا كان ورماً حاراً فقط .

 

ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض : وهي الحمى والسعال ، والوجع الناخس ، وضيق النفس ، والنبض المنشاري .

والعلاج الموجود في الحديث ، ليس هو لهذا القسم ، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة ، فإن القسط البحري - وهو العود الهندي على ما جاء مفسراً في أحاديث أخر - صنف من القسط إذا دق دقاً ناعماً ، وخلط بالزيت المسخن ، ودلك به مكان الريح المذكور ، أو لعق ، كان دواء موافقاً لذلك ، نافعاً له ، محللاً لمادته ، مذهباً لها ، مقوياً للأعضاء الباطنة ، مفتحاً للسدد ، والعود المذكور في منافعه كذلك .

قال المسبحي : العود : حار يابس ، قابض يحبس البطن ، ويقوي الأعضاء الباطنة ، ويطرد الريح ، ويفتح السدد ، نافع من ذات الجنب ، ويذهب فضل الرطوبة ، والعود المذكور جيد للدماغ . قال : ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضاً إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة ، والله أعلم .

 

وذات الجنب : من الأمراض الخطرة ، وفي الحديث الصحيح : عن أم سلمة ، أنها قالت : بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه في بيت ميمونة ، وكان كلما خف عليه ، خرج وصلى بالناس ، وكان كلما وجد ثقلاً قال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " ، واشتد شكواه حتى غمر عليه من شدة الوجع ، فاجتمع عنده نساؤه ، وعمه العباس ، وأم الفضل بنت الحارث وأسماء بنت  عميس ، فتشاوروا في لده ، فلدوه وهو مغمور ، فلما أفاق قال : " من فعل بي هذا ، هذا من عمل نساء جئن من ها هنا ، وأشار بيده إلى أرض الحبشة ، وكانت أم سلمة وأسماء لدتاه ، فقالوا : يا رسول الله ! خشينا أن يكون بك ذات الجنب . قال :   فبم لددتموني  ؟ قالوا : بالعود الهندي ، وشئ من ورس ، وقطرات من زيت . فقال :  ما كان الله ليقذفني بذلك الداء  ، ثم قال :  عزمت عليكم أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس " .

وفي  الصحيحين  عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار أن لا تلدوني ،  فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق قال : " ألم أنهكم أن تلدوني ، لا يبقى منكم أحد إلا لد غير عمي العباس ، فإنه لم يشهدكم " .

قال أبو عبيد عن الأصمعي : اللدود : ما يسقى الإنسان في أحد شقي الفم ، أخذ من لديدي الوادي ، وهما جانباه . وأما الوجور : فهو في وسط الفم .

 

قلت : واللدود - بالفتح : - هو الدواء الذي يلد به . والسعوط : ما أدخل من أنفه .

وفي هذا الحديث من الفقه معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء ، إذا لم يكن فعله محرماً لحق الله ، وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر ، وهو منصوص أحمد وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين ، وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة ، وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة ، فيتعين القول بها .

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصداع والشقيقة

روى ابن ماجه في  سننه  حديثاً في صحته نظر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صدع ، غلف رأسه بالحناء ، ويقول :  " إنه نافع بإذن الله من الصداع " .

والصداع : ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله ، فما كان منه في أحد شقي الرأس لازماً يسمى شقيقة ، وإن كان شاملاً لجميعه لازماً ، يسمى بيضة وخودة تشبيهاً ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله ، وربما كان في مؤخر الرأس أو في مقدمه .

وأنواعه كثيرة ، وأسبابه مختلفة . وحقيقة الصداع سخونة الرأس ، واحتماؤه لما دار فيه من البخار يطلب النفوذ من الرأس ، فلا يجد منفذاً فيصدعه كما يصدع الوعي إذا حمي ما فيه وطلب النفوذ ، فكل شئ رطب إذا حمي ، طلب مكاناً أوسع من مكانه الذي كان فيه ، فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله بحيث لا يمكنه التفشي والتحلل ، وجال في الرأس ، سمي السدر .

 

والصداع يكون عن أسباب عديدة :

أحدها : من غلبة واحد من الطبائع الأربعة .

والخامس : يكون من قروح تكون في المعدة ، فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة .

والسادس : من ريح غليظة تكون في المعدة ، فتصعد إلى الرأس فتصدعه .

والسابع : يكون من ورم في عروق المعدة ، فيألم الرأس بألم المعدة للإتصال الذي بينهما .

والثامن : صداع يحصل عن امتلاء المعدة من الطعام ، ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئاً ، فيصدع الرأس ويثقله .

والتاسع : يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم ، فيصل إليه من حر الهواء أكثر من قدره .

والعاشر : صداع يحصل بعد القئ والإستفراغ ، إما لغلبة اليبس ، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه .

والحادي عشر : صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء .

والثاني عشر : ما يعرض عن شدة البرد ، وتكاثف الأبخرة في الرأس وعدم تحللها .

والثالث عشر : ما يحدث من السهر وعدم النوم .

والرابع عشر : ما يحدث من ضغط الرأس وحمل الشئ الثقيل عليه .

والخامس عشر : ما يحدث من كثرة الكلام ، فتضعف قوة الدماغ لأجله .

والسادس عشر : ما يحدث من كثرة الحركة والرياضة المفرطة .

والسابع عشر : ما يحدث من الأعراض النفسانية ، كالهموم ، والغموم ، والأحزان ، والوساوس ، والأفكار الرديئة .

والثامن عشر : ما يحدث من شدة الجوع ، فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه ، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه .

والتاسع عشر : ما يحدث عن ورم في صفاق الدماغ ، ويجد صاحبه كأنه يضرب بالمطارق على رأسه .

والعشرون : ما يحدث بسبب الحمى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم ، والله أعلم .

 

فصل

وسبب صداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها ، أو مرتقية إليها ، فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه ، وتلك المادة إما بخارية ، وإما أخلاط حارة أو باردة ، وعلامتها الخاصة بها ضربان الشرايين ، وخاصة في الدموي . وإذا ضبطت بالعصائب ، ومنعت من الضربان ، سكن الوجع .

وقد ذكر أبو نعيم في كتاب  الطب النبوي  له : أن هذا النواع كان يصيب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيمكث اليوم واليومين ، ولا يخرج .

وفيه : عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد عصب رأسه بعصابة .

وفي  الصحيح  ، أنه قال في مرض موته : " وارأساه " وكان يعصب رأسه في مرضه ، وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس .

 

 

فصل

وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه ، فمنه ما علاجه بالإستفراغ ، ومنه ما علاجه بتناول الغذاء ، ومنه ما علاجه بالسكون والدعة ، ومنه ما علاجه بالضمادات ، ومنه ما علاجه بالتبريد ، ومنه ما علاجه بالتسخين ، ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات .

إذا عرف هذا ، فعلاج الصداع في هذا الحديث بالحناء ، هو جزئي لا كلي ، وهو علاج نوع من أنواعه ، فإن الصداع إذا كان من حرارة ملهبة ، ولم يكن من مادة يجب استفراغها ، نفع فيه الحناء نفعاً ظاهراً ، وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل، سكن الصداع، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به ، سكنت أوجاعه ، وهذا لا يختص بوجع الرأس ، بل يعم الأعضاء ، وفيه قبض تشد به الأعضاء ، وإذا ضمد به موضع الورم الحار والملتهب ، سكنه .

 

وقد روى البخاري في  تاريخه  وأبو داود في  السنن  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكى إليه أحد وجعاً في رأسه إلا قال له : " احتجم " ، ولا شكى إليه وجعاً في رجليه إلا قال له : " اختضب بالحناء " .

وفي الترمذي : عن سلمى أم رافع خادمة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء .

 

فصل

والحناء بارد في الأولى ، يابس في الثانية ، وقوة شجر الحناء وأغصانها مركبة من قوة محللة اكتسبتها من جوهر فيها مائي ، حار باعتدال ، ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضي بارد .

 

ومن منافعه أنه محلل نافع من حرق النار ، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به ، وينفع إذا مضغ ، من قروح الفم والسلاق العارض فيه ، ويبرئ القلاع الحادث في أفواه الصبيان ، والضماد به ينفع من الأورام الحارة الملهبة ، ويفعل في الجراحات فهل دم الأخوين . وإذا خلط نوره مع الشمع المصفى ، ودهن الورد ، ينفع من أوجاع الجنب .

ومن خواصه أنه إذا بدأ الخدري يخرج بصبي ، فخضبت أسافل رجليه بحناء ، فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شئ منه ، وهذا صحيح مجرب لا شك فيه . وإذا جعل نوره بين طي ثياب الصوف طيبها ، ومنع السوس عنها ، وإذا نقع ورقه في ماء يغمره، ثم عصر وشرب من صفوه أربعين يوماً كل يوم عشرون درهماً مع عشرة دراهم سكر ، ويغذى عليه بلحم الضأن الصغير ، فإنه ينفع من ابتداء الجذام بخاصية فيه عجيبة .

وحكي أن رجلاً تشققت أظافير أصابع يده ، وأنه بذل لمن يبرئه مالاً ، فلم يجد ، فوصفت له امرأة ، أن يشرب عشرة أيام حناء ، فلم يقدم عليه ، ثم نقعه بماء وشربه ، فبرأ ورجعت أظافيره إلى حسنها .

والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجوناً حسنها ونفعها ، وإذا عجن بالسمن وضمد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر ، نفعها ونفع من الجرب المتقرح المزمن منفعة بليغة ، وهو ينبت الشعر ويقويه ، ويحسنه ، ويقوي الرأس ، وينفع من النفاطات ، والبثور العارضة في الساقين والرجلين ، وسائر البدن .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب ، وأنهم لا يكرهون على تناولهما

روى الترمذي في  جامعه  ، وابن ماجه ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب ، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم " .

 

قال بعض فضلاء الأطباء : ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية ، لا سيما للأطباء ، ولمن يعالج المرضى ، وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب ، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض ، أو لسقوط شهوته ، أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها ، وكيفما كان ، فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة .

 

واعلم أن الجوع إنا هو طلب الأعضاء للغذاء لتخلف الطبيعة به عليها عوض ما يتحلل منها ، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهي الجذب الى المعدة ، فيحس الإنسان بالجوع ، فيطلب الغذاء ، وإذا وجد المرض ، اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء ، أو الشراب ، فإذا أكره المريض على استعمال شئ من ذلك ، تعطلت به الطبيعة عن فعلها ، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه ، فيكون ذلك سبباً لضرر المريض ، ولا سيما في أوقات البحران ، أو ضعف الحار الغريزي أو خموده ، فيكون ذلك زيادة في البلية ، وتعجيل النازلة المتوقعة ، ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها من غير استعمال مزعج للطبيعة البتة ، وذلك يكون بما لطف قوامه من الأشربة والأغذية ، واعتدل مزاجه كشراب اللينوفر ، والتفاح ، والورد الطري ، وما أشبه ذلك ، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط ، وإنعاش قواه بالأراييح العطرة الموافقة ، والأخبار السارة ، فإن الطبيب خادم الطبيعة ، ومعينها لا معيقها .

 

واعلم أن الدم الجيد هو المغذي للبدن ، وأن البلغم دم فج قد نضج بعض النضج ، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير ، وعدم الغذاء ، عطفت الطبيعة عليه ، وطبخته ، وأنضجته ، وصيرته دماً ، وغذت به الأعضاء ، واكتفت به عما سواه ، والطبيعة هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته ، وحراسته مدة حياته .

واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب ، وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل ، وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص ، أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل ، ومعنى الحديث : أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياماً لا يعيش الصحيح في مثلها .

 

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " فإن الله يطعمهم ويسقيهم " معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح ، وتأثيرها في طبيعة البدن ، وانفعال الطبيعة عنها ، كما تنفعل هي كثيراً عن الطبيعة ، ونحن نشير إليه إشارة ، فنقول : النفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف ، اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب ، فلا تحس بجوع ولا عطش ، بل ولا حر ولا برد ، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم ، فلا تحس به ، وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئاً منه ، وإذا اشتغلت النفس بما دهمها ، وورد عليها ، لم تحس بألم الجوع ، فإن كان الوارد مفرحاً قوي التفريح ، قام لها مقام الغذاء ، فشبعت به ، وانتعشت قواها ، وتضاعفت ، وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه ، فيشرق وجهه ، وتظهر دمويته ، فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب ، فينبعث في العروق ، فتمتلئ به ، فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها ، وإلى الطبيعة منه ، والطبيعة إذا ظفرت بما تحب ، آثرته على ما هو دونه .

 

وإن كان الوارد مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً ، اشتغلت بمحاربته وققاومته ومدافعته عن طلب الغذاء ، فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب . فإن ظفرت في هذا الحرب ، انتعشت قواها ، وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة ، انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك ، وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالاً ، فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى ، وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين ، والنصر للغالب ، والمغلوب إما قتيل ، وإما جريح ، وإما أسير .

فالمريض : له مدد من الله تعالى يغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم ، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل ، فيحصل له من ذلك ما يوجب له قرباً من ربه ، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه ، ورحمة ربه عندئذ قريبة منه ، فإن كان ولياً له ، حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته ، وتنتعش به قواه أعظم من قوتها ، وانتعاشها بالأغذية البدنية ، وكلما قوي إيمانه وحبه لربه ، وأنسه به ، وفرحه به ، وقوي يقينه بربه ، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه ، وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه ، ولا يدركه وصف طبيب ، ولا يناله علمه .

 

ومن غلظ طبعه ، وكثفت نفسه عن فهم هذا والتصديق به ، فلينظر حال كثير من عشاق الصور الذين قد امتلأت قلوبهم بحب ما يعشقونه من صورة ، أو جاه ، أو مال ، أو علم ، وقد شاهد الناس من هذا عجائب في أنفسهم وفي غيرهم .

وقد ثبت في  الصحيح  : عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يواصل في الصيام الأيام ذوات العدد ، وينهى أصحابه عن الوصال ويقول : " لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .

ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الإنسان بفمه ، وإلا لم يكن مواصلاً ، ولم يتحقق الفرق ، بل لم يكن صائماً ، فإنه قال : " أظل يطعمني ربي ويسقيني " .

وأيضاً فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال ، وأنه يقدر منه على ما لا يقدرون عليه ، فلو كان يأكل ويشرب بفمه ، لم يقل لست كهيئتكم ، وإنما فهم هذا من الحديث من قل نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب ، وتأثيره في القوة وإنعاشها ، واغتذائها به فوق تأثير الغذاء الجسماني ، والله الموفق .

 

فصل

ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم ، فيكون الحديث من العام المخصوص ، ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد ، وتلك التربة الخاصة من كل سم ، ولكن ها هنا أمر لا بد من بيانه ، وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله ، واعتقاد النفع به ، فتقبله الطبيعة ، فتستعين به على دفع العلة ، حتى إن كثيراً من المعالجات ينفع بالإعتقاد ، وحسن القبول ، وكمال التلقي ، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب ، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له ، وتفرح النفس به ، فتنتعش القوة ، ويقوى سلطان الطبيعة ، وينبعث الحار الغريزي ، فيساعد على دفع المؤذي ، وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعاً لتلك العلة ، فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه ، وعدم أخذ الطبيعة له بالقبول ، فلا يجدي عليها شيئاً . واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأشفية ، وأنفعها للقلوب والأبدان ، والمعاش والمعاد ، والدنيا والآخرة ، وهو القرآن الذي هو شفاء من كل داء ، كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع ، بل لا يزيدها إلا مرضاً إلى مرضها ، وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن ، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقماً إلا أبرأه ، ويحفظ عليها صحتها المطلقة ، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر ، ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه ، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك ، وعدم استعماله ، والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به ، وغلبت العوائد ، واشتد الإعراض ، وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب ، وتربى المرضى والاطباء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم ، ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم ، فعظم المصاب ، واستحكم الداء ، وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها ، وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها ، وقويت ، ولسان الحال ينادي عليهم :

ومـــن العجــائب والعجــائب جمة       قـرب الشفاء وما إليه وصول

كالعيس في البيداء يقتلها الظما       والماء فوق ظهورها محمول

 

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها ، ويقوي نفعها

ثبت في  الصحيحين  من حديث عبد الله بن جعفر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء .

والرطب : حار رطب في الثانية ، يقوي المعدة الباردة ، ويوافقها ، ويزيد في الباه ، ولكنه سريع التعفن ، معطش معكر للدم ، مصدع مولد للسدد ، ووجع المثانة ، ومضر بالأسنان ، والقثاء بارد رطب في الثانية ، مسكن للعطش ، منعش للقوى بشمه لما فيه من العطرية ، مطفئ لحرارة المعدة الملتهبة ، وإذا جفف بزره ، ودق واستحلب بالماء ، وشرب ، سكن العطش ، وأدر البول ، ونفع من وجع المثانة . وإذا دق ونخل ، ودلك به الأسنان ، جلاها ، وإذا دق ورقه وعمل منه ضماد مع الميبختج ، نفع من عضة الكلب الكلب .

وبالجملة : فهذا حار ، وهذا بارد ، وفي كل منهما صلاح للآخر ، وإزالة لأكثر ضرره ، ومقاومة كل كيفية بضدها ، ودفع سورتها بالأخرى ، وهذا أصل العلاج كله ، وهو أصل في حفظ الصحة ، بل علم الطب كله يستفاد من هذا . وفي استعمال ذلك وأمثاله في الأغذية والأدوية إصلاح لها وتعديل ، ودفع لما فيها من الكيفيات المضرة لما يقابلها ، وفي ذلك عون على صحة البدن ، وقوته وخصبه ، قالت عائشة رضي الله عنها : سمنوني بكل شئ ، فلم أسمن ، فسمنوني بالقثاء والرطب ، فسمنت .

وبالجملة : فدفع ضرر البارد بالحار ، والحار بالبارد ، والرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، وتعديل أحدهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات ، وحفظ الصحة ، ونظير هذا ما تقدم من أمره بالسنا والسنوت ، وهو العسل الذي فيه شئ من السمن يصلح به السنا ، ويعدله ، فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والأبدان ، وبمصالح الدنيا والآخرة .

 

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في الحمية

الدواء كله شيئان : حمية وحفظ صحة . فإذا وقع التخليط ، احتيج إلى الإستفراغ الموافق ، وكذلك مدار الطب كله على هذه القواعد الثلاثة . والحمية : حميتان : حمية عما يجلب المرض ، وحمية عما  يزيده ، فيقف على حاله ، فالأول : حمية الأصحاء . والثانية : حمية المرضى ، فإن المريض إذا احتمى ، وقف مرضه عن التزايد ، وأخذت القوى في دفعه . والأصل في الحمية قوله تعالى : " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " [ النساء : 43 ، المائدة : 6 ] ، فحمى المريض من استعمال الماء ، لأنه يضره.

 

وفي  سنن ابن ماجه  وغيره عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية ، قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي ، وعلي ناقه من مرض ، ولنا دوالي معلقة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها ، وقام علي يأكل منها ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي :  إنك ناقة  حتى كف . قالت : وصنعت شعيراً وسلقاً ، فجئت به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي :  من هذا أصب ، فإنه أنفع لك " وفي لفظ فقال : " من هذا فأصب ، فإنه أوفق لك " .

 

وفي  سنن ابن ماجه  أيضاً عن صهيب قال : " قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر ، فقال :  ادن  فكل  ، فأخذت تمراً فأكلت ، فقال :  أتأكل تمراً وبك رمد  ؟ فقلت : يا رسول الله ! أمضع من الناحية الأخرى ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

وفي حديث محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب عبداً ، حماه من الدنيا ، كما يحمي أحدكم مريضه عن الطعام والشراب " . وفي لفظ : " إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا " .

 

وأما الحديث الدائر على ألسنة كثير من الناس :  الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل جسم ما اعتاد  فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله غير واحد من أئمة الحديث . ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة ، وإذا سقمت المعدة ، صدرت العروق بالسقم " .

وقال الحارث : رأس الطب الحمية ، والحمية عندهم للصحيح في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه ، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض ، فإن طبيعته لم ترجع بعد إلى قوتها ، والقوة الهاضمة ضعيفة ، والطبيعة قابلة ، والأعضاء مستعدة ، فتخليطه يوجب انتكاسها ، وهو أصعب من ابتداء مرضه .

واعلم أن في رفع النبي صلى الله عليه وسلم لعلي من الأكل من الدوالي ، وهو ناقه أحسن التدبير ، فان الدوالي أقناء من الرطب تعلق في البيت للأكل بمنزلة عناقيد العنب ، والفاكهة تضر بالناقه من المرض لسرعة استحالتها ، وضعف الطبيعة عن دفعها ، فإنها لم تتمكن بعد من قوتها ، وهي مشغولة بدفع آثار العلة ، وإزالتها من البدن .

 

وفي الرطب خاصة نوع ثقل على المعدة ، فتشتغل بمعالجته وإصلاحه عما هي بصدده من إزالة المرض وآثاره ، فإما أن تقف تلك البقية ، وإما أن تتزايد ، فلما وضح بين يديه السلق والشعير ، أمره أن يصيب منه ، فإنه من أنفع الأغذية للناقه ، فإن في ماء الشعير من التبريد والتغذية ، والتلطيف والتليين ، وتقوية الطبيعة ما هو أصلح للناقه ، ولا سيما إذا طبخ بأصول السلق ، فهذا من أوفق الغذاء لمن في معدته ضعف ، ولا يتولد عنه من الأخلاط ما يخاف منه .

وقال زيد بن أسلم : حمى عمر رضي الله عنه مريضاً له ، حتى إنه من شدة ما حماه كان يمص النوى .

وبالجملة : فالحمية من أنفع الأدوية قبل الداء ، فتمنع حصوله ، وإذا حصل ، فتمنع تزايده وانتشاره .

 

فصل

ومما ينبغي أن يعلم أن كثيراً مما يحمى عنه العليل والناقه والصحيح ، إذا اشتدت الشهوة إليه ، ومالت إليه الطبيعة ، فتناول منه الشئ اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه ، لم يضره تناوله ، بل ربما انتفع به ، فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره ، وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة ، وتدفعه من الدواء ، ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم صهيباً وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة ، وعلم أنها لا تضره ، ومن هذا ما يروى عن علي أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أرمد ، وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم تمر يأكله ، فقال : " يا علي ! تشتهيه ؟ ورمى إليه  بتمرة ، ثم بأخرى حتى رمى إليه سبعاً ، ثم قال :  حسبك يا علي " .

 

ومن هذا ما رواه ابن ماجه في  سننه  من حديث عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً فقال له :   " ما تشتهي  ؟ فقال : أشتهي خبز بر . وفي لفظ : أشتهي كعكاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :  من كان عنده خبز بر فيبعث إلى أخيه  ثم قال :  إذا اشتهى مريض أحدكم شيئاً ، فليطعمه " .

ففي هذا الحديث سر طبي لطيف ، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق طبيعي ، وكان فيه ضرر ما ، كان أنفع وأقل ضرراً مما لا يشتهيه ، وإن كان نافعاً في نفسه ، فإن صدق شهوته ، ومحبة الطبيعة يدفع ضرره ، وبغض الطبيعة وكراهتها للنافع ، قد يجلب لها منه ضرراً . وبالجملة : فاللذيذ المشتهى تقبل الطبيعة عليه بعناية ، فتهضمه على أحمد الوجوه ، سيما عند انبعاث النفس إليه بصدق الشهوة ، وصحة القوة ، والله أعلم .

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الرمد بالسكون ، والدعة ، وترك الحركة ، والحمية مما يهيج الرمد

وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى صهيباً من التمر ، وأنكر عليه أكله ، وهو أرمد ، وحمى علياً من الرطب لما أصابه الرمد .

وذكر أبو نعيم في كتاب  الطب النبوي  : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها .

الرمد : ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين ، وهو بياضها الظاهر ، وسببه انصباب أحد الأخلاط الأربعة ، أو ريح حارة تكثر كميتها في الرأس والبدن ، فينبعث منها قسط إلى جوهر العين ، أو ضربة تصيب العين ، فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقداراً كثيراً تروم بذلك شفاءها مما عرض لها ، ولأجل ذلك يرم العضو المضروب ، والقياس يوجب ضده .

 

واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجو بخاران ، أحدهما : حار يابس ، والآخر : حار رطب ، فينعقدان سحاباً متراكماً ، ويمنعان أبصارنا من إدراك السماء ، فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك ، فيمنعان النظر ، ويتولد عنهما علل شتى ، فإن قويت الطبيعة على ذلك ودفعته إلى الخياشيم ، أحدث الزكام ، وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخناق ، وإن دفعته إلى الجنب ، أحدث الشوصة ، وإن دفعته إلى الصدر ، أحدث النزلة ، وإن انحدر إلى القلب ، أحدث الخبطة ، وإن دفعته إلى العين أحدث رمداً ، وإن انحدر إلى الجوف ، أحدث السيلان ، وإن دفعته إلى منازل الدماغ أحدث النسيان ، وإن ترطبت أوعية الدماغ   منه ، وامتلأت به عروقه أحدث النوم الشديد ، ولذلك كان النوم رطباً ، والسهر يابساً . وإن طلب البخار النفوذ من الرأس ، فلم يقدر عليه ، أعقبه الصداع والسهر ، وإن مال البخار إلى أحد شقي الرأس ، أعقبه الشقيقة ، وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة . أعقبه داء البيضة ، وإن برد منه حجاب الدماغ ، أو سخن ، أو ترطب وهاجت منه أرياح ، أحدث العطاس ، وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزي ، أحدث الإغماء والسكات ، وإن أهاج المرة السوداء حتى أظلم هواء الدماغ ، أحدث الوسواس ، وإن فاض ذلك إلى مجاري العصب ، أحدث الصرع الطبيعي ، وإن ترطبت مجامع عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه ، أعقبه الفالج ، وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ ، أحدث البرسام ، فإن شركه الصدر في ذلك ، كان سرساماً ، فافهم هذا الفصل .

 

والمقصود : أن أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هائجة في حال الرمد ، والجماع مما يزيد حركتها وثورانها ، فإنه حركة كلية للبدن والروح والطبيعة . فأما البدن ، فيسخن بالحركة لا محالة ، والنفس تشتد حركتها طلباً للذة واستكمالها ، والروح تتحرك تبعاً لحركة النفس والبدن ، فإن أول تعلق الروح من البدن بالقلب ، ومنه ينشأ الروح ، وتنبث في الأعضاء . وأما حركة الطبيعة ، فلأجل أن ترسل ما يجب إرساله من المني على المقدار الذي يجب إرساله .

 

وبالجملة : فالجماع حركة كلية عامة يتحرك فيها البدن وقواه ، وطبيعته وأخلاطه ، والروح والنفس ، فكل حركة فهى مثيرة للأخلاط مرققة لها توجب دفعها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة ، والعين في حال رمدها أضعف ما تكون ، فأضر ما عليها حركة الجماع .

قال بقراط في كتاب  الفصول  : وقد يدل ركوب السفن أن الحركة تثور الأبدان . هذا مع أن في الرمد منافع كثيرة ، منها ما يستدعيه من الحمية والإستفراغ ، وتنقية الرأس والبدن من فضلاتهما وعفوناتهما ، والكف عما يؤذي النفس والبدن من الغضب ، والهم والحزن ، والحركات العنيفة ، والأعمال الشاقة . وفي أثر سلفي : لا تكرهوا الرمد ، فإنه يقطع عروق العمى .

 

ومن أسباب علاجه ملازمة السكون والراحة ، وترك مس العين والإشتغال بها ، فإن أضداد ذلك يوجب انصباب المواد إليها . وقد قال بعض السلف : مثل أصحاب محمد مثل العين ، ودواء العين ترك مسها . وقد روي في حديث مرفوع ، الله أعلم به : " علاج الرمد تقطير الماء البارد في العين " وهو من أنفع الأدوية للرمد الحار ، فإن الماء دواء بارد يستعان به على إطفاء حرارة الرمد إذا كان حاراً ، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لامرأته زينب وقد اشتكت عينها : لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيراً لك وأجدر أن تشفي ، تنضحين في عينك الماء ، ثم تقولين : " أذهب البأس رب الناس ، واشف أنت  الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً " . وهذا مما تقدم مراراً أنه خاص ببعض البلاد ، وبعض أوجاع العين ، فلا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كلياً عاماً ، ولا الكلي العام جزئياً خاصاً ، فيقع من الخطأ ، وخلاف الصواب ما يقع ، والله أعلم .

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الخدران الكلي الذي يجمد معه البدن

ذكر أبو عبيد في  غريب الحديث  من حديث أبي عثمان النهدي : أن قوماً مروا بشجرة فأكلوا منها ، فكأنما مرت بهم ريح ، فأجمدتهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قرسوا الماء في الشنان ، وصبوا عليهم فيما بين الأذانين " ، ثم قال أبوعبيد : قرسوا : يعني بردوا . وقول الناس : قد قرس البرد ، إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد . والشنان : الأسقية والقرب الخلقان ، يقال للسقاء : شن ، وللقربة : شنة . وإنما ذكر الشنان دون الجدد لأنها أشد تبريداً للماء . وقوله :  بين الأذانين  ، يعني أذان الفجر والإقامة ، فسمى الإقامة أذاناً ، انتهى كلامه .

قال بعض الأطباء : وهذا العلاج من النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل علاج هذا الداء إذا كان وقوعه بالحجاز ، وهي بلاد حارة يابسة ، والحار الغريزي ضعيف في بواطن سكانها ، وصب الماء البارد عليهم في الوقت المذكور ، - وهو أبرد أوقات اليوم - يوجب جمع الحار الغريزي المنتشر في البدن الحامل لجميع قواه ، فيقوي القوة الدافعة ، ويجتمع من أقطار البدن إلى باطنه الذي هو محل ذاك الداء ، ويستظهر بباقي القوى على دفع المرض المذكور ، فيدفعه بإذن الله عز وجل ، ولو أن بقراط ، أو جالينوس ، أو غيرهما ، وصف هذا الدواء لهذا الداء ، لخضعت له الأطباء ، وعجبوا من كمال معرفته .

 

 فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب ، وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها

في  الصحيحين  من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم ،  فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر شفاء " .

وفي  سنن ابن ماجه  عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحد جناحي الذباب سم ، والآخر شفاء ، فإذا وقع في الطعام ، فامقلوه ، فإنه يقدم السم ، ويؤخر الشفاء " .

هذا الحديث فيه أمران : أمر فقهي ، وأمر طبي ، فأما الفقهي ، فهو دليل ظاهر الدلالة جداً على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع ، فإنه لا ينجسه ، وهذا قول جمهور العلماء ، ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك . ووجه الإستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقله ، وهو غمسه في الطعام ، ومعلوم أنه يموت من ذلك ، ولا سيما إذا كان الطعام حاراً . فلو كان ينجسه لكان أمراً بإفساد الطعام ، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه ، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة ، كالنحلة والزنبور ، والعنكبوت وأشباه ذلك ، إذ الحكم يعم بعموم علته ، وينتفي لانتفاء سببه ، فلما كان سجب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته ، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته .

 

ثم قال من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة : إذا كان هذا ثابتاً في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرطوبات ، والفضلات ، وعدم  الصلابة ، فثبوته في العظم الذي هو أبعد عن الرطوبات والفضلات ، واحتقان الدم أولى ، وهذا في غاية القوة ، فالمصير إليه أولى .

وأول من حفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة ، فقال : ما لا نفس له سائلة ، إبراهيم النخعي ، وعنه تلقاها الفقهاء - والنفس في اللغة : يعبر بها عن الدم ، ومنه نفست المرأة - بفتح النون - إذا حاضت ، ونفست - بضمها - إذا ولدت .

وأما المعنى الطبي ، فقال أبو عبيد : معنى امقلوه : اغمسوه ليخرج الشفاء منه ، كما خرج الداء ، يقال للرجلين : هما يتماقلان ، إذا تغاطا في الماء .

 

واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم ، والحكة العارضة عن لسعه ، وهي بمنزلة السلاح ، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء ، فيغمس كله في الماء والطعام ، فيقابل المادة السمية المادة النافعة ، فيزول ضررها ، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم ، بل هو خارج من مشكاة النبوة ، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق ، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية .

وقد ذكر غير واحد من الأطباء أن لسع الزنبور والعقرب إذا دلك موضعه بالذباب نفع منه نفعاً بيناً ، وسكنه ، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء ، وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين المسمى شعرة بعد قطع رؤوس الذباب ، أبرأه .

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج البثرة

ذكر ابن السني في كتابه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج في أصبعي بثرة ، فقال : عندك ذريرة ؟ قلت : نعم . قال :  ضعيها عليها  وقولي : اللهم مصغر الكبير ، ومكبر الصغير، صغر ما بي " .

الذريرة : دواء هندي يتخذ من قصب الذريرة ، وهي حارة يابسة تنفع من أورام المعدة والكبد والإستسقاء ، وتقوي القلب لطيبها ، وفي  الصحيحين  عن عائشة أنها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام .

والبثرة : خراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة ، فتسترق مكاناً من الجسد تخرج منه ، فهي محتاجة إلى ما ينضجها ويخرجها ، والذريرة أحد ما يفعل بها ذلك ، فإن فيها إنضاجاً وإخراجاً مع طيب رائحتها ، مع أن فيها تبريداً للنارية التي في تلك المادة ، وكذلك قال صاحب  القانون  : إنه لا أفضل لحرق النار من الذريرة بدهن الورد والخل .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأورام ، والخرجات التي تبرأ بالبط والبزل

يذكر عن علي أنه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعوذه بظهره ورم ، فقالوا : يا رسول الله ! بهذه مدة . قال :  بطوا عنه  ، قال علي : فما برحت حتى بطت ، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد .

ويذكر عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر طبيباً أن يبط بطن رجل أجوى البطن ، فقيل : يا رسول الله : هل ينفع الطب ؟ قال : " الذي أنزل الداء ، أنزل الشفاء ، فيما شاء " .

الورم : مادة في حجم العضو لفضل مادة غير طبيعية تنصب إليه ، ويوجد في أجناس الأمراض كلها ، والمواد التي تكون عنها من الأخلاط الأربعة ، والمائية ، والريح ، وإذا اجتمع الورم سمي خراجاً ، وكل ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء : إما تحلل ، وإما جمع مدة ، وإما استحالة إلى الصلابة . فإن كانت القوة قوية ، استولت على مادة الورم وحللته ، وهي أصلح الحالات التي يؤول حال الورم إليها ، وإن كانت دون ذلك ، أنضجت المادة ، وأحالتها مدة بيضاء ، وفتحت لها مكاناً أسالتها منه . وإن نقصت عن ذلك أحالت المادة مدة غير مستحكمة النضج ، وعجزت عن فتح مكان في العضو تدفعها منه ، فيخاف على العضو الفساد بطول لبثها فيه ، فيحتاج حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبط ، أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو .

وفي البط فائدتان : إحداهما : إخراج المادة الرديئة المفسدة .

والثانية : منع اجتماع مادة أخرى إليها تقويها .

وأما قوله في الحديث الثاني : " إنه أمر طبيباً أن يبط بطن رجل أجوى البطن " ، فالجوى يقال على معان منها : الماء المنتن الذي يكون في البطن يحدث عنه الإستسقاء .

وقد اختلف الأطباء في بزله لخروج هذه المادة ، فمنعته طائفة منهم لخطره ، وبعد السلامة معه ، وجوزته طائفة أخرى ، وقالت : لا علاج له سواه ، وهذا عندهم إنما هو في الإستسقاء الزقي ، فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع : طبلي ، وهو الذي ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضربت عليه سمع له صوت كصوت الطبل ، ولحمي : وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء ، وهو أصعب من الأول ، وزقي : وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة رديئة يسمع لها عند الحركة خضخضة كخضخضة الماء في الزق ، وهو أردأ أنواعه عند الأكثرين من الأطباء . وقالت طائفة : أردأ أنواعه اللحمي لعموم الآفة به .

ومن جملة علاج الزقي إخراج ذلك بالبزل ، ويكون ذلك بمنزلة فصد العروق لإخراج الدم الفاسد ، لكنه خطر كما تقدم ، وإن ثبت هذا الحديث ، فهو دليل على جواز بزله ، والله أعلم .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم

روى ابن ماجه  في سننه  من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخلتم على  المريض ، فنفسوا له في الأجل ، فإن ذلك لا يرد شيئاً ، وهو يطيب نفس المريض " .

وفي هذا الحديث نوع شريف جداً من أشرف أنواع العلاج ، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة ، وتنتعش به القوة ، وينبعث به الحار الغريزي ، فيتساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غاية تأثير الطبيب .

وتفريح نفس المريض ، وتطييب قلبه ، وإدخال ما يسره عليه ، له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها ، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك ، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي ، وقد شاهد الناس كثيراً من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ، ويعظمونه ، ورؤيتهم لهم ، ولطفهم بهم ، ومكالمتهم إياهم ، وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم ، فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد : نوع يرجع إلى المريض ، ونوع يعود على العائد ، ونوع يعود على أهل المريض ، ونوع يعود على العامة .

وقد تقدم في هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسأل المريض عن شكواه ، وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه ، ويضع يده على جبهته ، وربما وضعها بين ثدييه ، ويدعو له ، ويصف له ما ينفعه في علته ، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه ، وربما كان يقول للمريض : " لا بأس طهور إن شاء الله " ، وهذا من كمال اللطف ، وحسن العلاج والتدبير .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية دون ما لم تعتده

هذا أصل عظيم من أصول العلاج ، وأنفع شئ فيه ، وإذا أخطأه الطبيب ، أضر المريض من حيث يظن أنه ينفعه ، ولا يعدل عنه إلى ما يجده من الأدوية في كتب الطب إلا طبيب جاهل ، فإن ملاءمة الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها ، وهؤلاء أهل البوادي والأكارون وغيرهم لا ينجع فيهم شراب اللينوفر والورد الطري ولا المغلي ، ولا يؤثر في طباعهم شيئاً ، بل عامة أدوية أهل الحضر وأهل الرفاهية لا تجدي علهم ، والتجربة شاهدة بذلك ، ومن تأمل ما ذكرناه من العلاج انبوي ، رآه كله موافقاً لعادة العليل وأرضه ، وما نشأ عليه . فهذا أصل عظيم من أصول العلاج يجب الإعتناء به ، وقد صرح به أفاضل أهل الطب حتى قال طبيب العرب بل أطبهم الحارث بن كلدة ، وكان فيهم كابقراط في قومه : الحمية رأس الدواء ، والمعدة بيت الداء ، وعودوا كل بدن ما اعتاد . وفي لفظ عنه : الأزم دواء ، والأزم : الإمساك عن الأكل يعني به الجوع ، وهو من أكبر الأدوية في شفاء الأمراض الإمتلائية كلها بحيث إنه أفضل في علاجها من المستفرغات إذا لم يخف من كثرة الإمتلاء ، وهيجان الأخلاط ، وحدتها أو غليانها .

 

وقوله : المعدة بيت الداء . المعدة : عضو عصبي مجوف كالقرعة في شكلها ، مركب من ثلاث طبقات ، مؤلفة من شظايا دقيقة عصبية تسمى الليف ، ويحيط بها لحم ، وليف إحدى الطبقات بالطول ، والأخرى بالعرض ، والثالثة بالورب ، وفم المعدة أكثر  عصباً ، وقعرها أكثر لحماً ، وفي باطنها خمل ، وهي محصورة في وسط البطن ، وأميل إلى الجانب الأيمن قليلاً ، خلقت على هذه الصفة لحكمة لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه ، وهي بيت الداء ، وكانت محلاً للهضم الأول ، وفيها ينضج الغذاء وينحدر منها بعد ذلك إلى الكبد والأمعاء ، ويتخلف منه فيها فضلات قد عجزت القوة الهاضمة عن تمام هضمها ، إما لكثرة الغذاء ، أو لردائته ، أو لسوء ترتيب في استعماله ، أو لمجموع ذلك ، وهذه الأشياء بعضها مما لا يتخلص الإنسان منه غالباً ، فتكون المعدة بيت الداء لذلك ، وكأنه يشير بذلك إلى الحث على تقليل الغذاء ، ومنع النفس من اتباع الشهوات ، والتحرز عن الفضلات .

 

وأما العادة فلأنها كالطبيعة للإنسان ، ولذلك يقال : العادة طبع ثان ، وهي قوة عظيمة في البدن ، حتى إن أمراً واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات ، كان مختلف النسبة إليها . وإن كانت تلك الأبدان متفقة في الوجوه الأخرى مثال ذلك أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب ، أحدها : عود تناول الأشياء الحارة ، والثاني : عود تناول الأشياء الباردة ، والثالث : عود تناول الأشياء المتوسطة ، فإن الأول متى تناول عسلاً لم يضر به ، والثاني : متى تناوله ، أضر به ، والثالث : يضر به قليلاً ، فالعادة ركن عظيم في حفظ الصحة ، ومعالجة الأمراض ، ولذلك جاء العلاج النبوي بإجراء كل بدن على عادته في استعمال الأغذية والأدوية وغير ذلك .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في تغذية المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية

في  الصحيحين  من حديث عروة عن عائشة ، أنها كانت إذا مات الميت من أهلها ، واجتمع لذلك النساء ، ثم تفرقن إلى   أهلهن ، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ، وصنعت ثريداً ثم صبت التلبينة عليه ، ثم قالت : كلوا منها ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن " .

وفي  السنن  من حديث عائشة أيضاً قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالبغيض النافع التلبين " ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه . يعني يبرأ أو يموت .

وعنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له : إن فلاناً وجع لا يطعم الطعام ، قال : " عليكم بالتلبينة فحسوه إياها " ، ويقول : " والذي نفسي بيده إنها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ " .

 

التلبين : هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن ، ومنه اشتق إسمه ، قال الهروي : سميت تلبينة لشبهها باللبن لبياضها ورقتها ، وهذا الغذاء هو النافع للعليل ، وهو الرقيق النضيج لا الغليظ النيء ، وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة ، فاعرف فضل ماء الشعير ، بل هي ماء الشعير لهم ، فإنها حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته ، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يطبخ صحاحاً ، والتلبينة تطبخ منه مطحوناً ، وهي أنفع منه لخروج خاصية الشعير بالطحن ، وقد تقدم أن للعادات تأثيراً في الإنتفاع بالأدوية والأغذية ، وكانت عادة القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحوناً لا صحاحاً ، وهو أكثر تغذية ، وأقوى فعلاً ، وأعظم جلاء ، وإنما اتخذه أطباء المدن منه صحاحاً ليكون أرق وألطف ، فلا يثقل على طبيعة المريض ، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورخاوتها ، وثقل ماء الشعير المطحون عليها . والمقصود : أن ماء الشعير مطبوخاً صحاحاً ينفذ سريعاً ، ويجلو جلاء ظاهراً ، ويغذي غذاء لطيفاً . وإذا شرب حاراً كان جلاؤه أقوى ، ونفوذه أسرع ، وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثر ، وتلميسه لسطوح المعدة أوفق .

 

وقوله صلى الله عليه وسلم فيها : " مجمة لفؤاد المريض " يروى بوجهين . بفتح الميم والجيم ، وبضم الميم ، وكسر الجيم ، والأول: أشهر ، ومعناه : أنها مريحة له ، أي : تريحه وتسكنه من الإجمام وهو الراحة . وقوله : " تذهب ببعض الحزن " هذا - والله أعلم - لأن الغم والحزن يبردان المزاج ، ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها ، وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادته في مادتها ، فتزيل أكثر ما عرض له من الغم والحزن .

وقد يقال - وهو أقرب - : إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة ، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية ، والله أعلم .

 

وقد يقال : إن قوى الحزين تضعف باستيلاء اليبس على أعضائه ، وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء ، وهذا الحساء يرطبها ، ويقويها ، ويغذيها ، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض ، لكن المريض كثيراً ما يجتمع في معدته خلط مراري ، أو بلغمي ، أو  صديدي ، وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة ويسروه ، ويحدره ، ويميعه ، ويعدل كيفيته ، ويكسر سورته ، فيريحها ولا سيما لمن عادته الإغتذاء بخبز الشعير ، وهي عادة أهل المدينة إذ ذاك ، وكان هو غالب قوتهم ، وكانت الحنطة عزيزة عندهم . والله أعلم .

 

 

 

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السم الذي أصابه بخيبر من اليهود

ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك : " أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر ، فقال : ما هذه  ؟ قالت : هدية ، وحذرت أن تقول : من الصدقة ، فلا يأكل منها ، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكل الصحابة ، ثم قال :  أمسكوا  ، ثم قال للمرأة :  هل سممت هذه الشاة  ؟ قالت : من أخبرك بهذا ؟ قال :  هذا العظم لساقها  ، وهو في يده ؟ قالت : نعم . قال :  لم  ؟ قالت : أردت إن كنت كاذباً أن يستريح منك الناس ، وإن كنت نبياً ، لم يضرك ، قال : فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة على الكاهل ، وأمر أصحابه أن يحتجموا ، فاحتجموا ، فمات بعضهم" .

 

وفي طريق أخرى : واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة ، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة ، وهو مولى لبي بياضة من الأنصار ، وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه ، فقال : " ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر حتى كان هذا أوان انقطاع الأبهر مني " فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً ، قاله موسى بن عقبة .

معالجة السم تكون بالإستفراغات ، وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله ، إما بكيفياتها ، وإما بخواصها ، فمن عدم الدواء ، فليبادر إلى الإستفراغ الكلي وأنفعه الحجامة ، ولا سيما إذا كان البلد حاراً ، والزمان حاراً ، فإن القوة السمية تسري إلى الدم ، فتنبعث في العروق والمجاري حتى تصل إلى القلب ، فيكون الهلاك ، فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء ، فإذا بادر المسموم ، وأخرج الدم ، خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته ، فإن كان استفراغاً تاماً لم يضره السم ، بل إما أن يذهب ، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة ، فتبطل فعله أو تضعفه .

 

ولما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم ، احتجم في الكاهل ، وهو أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب ، فخرجت الماده السمية مع الدم لا خروجاً كلياً ، بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله سبحانه من تكميل مراتب الفضل كلها له ، فلما أراد الله إكرامه بالشهادة ، ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود :  " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون " [ البقرة : 87 ] ، فجاء بلفظ كذبتم بالماضي الذي قد وقع منه ، وتحقق ، وجاء بلفظ :  تقتلون  بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه ، والله أعلم .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج السحر الذي سحرته اليهود به

قد أنكر هذا طائفة من الناس ، وقالوا : لا يجوز هذا عليه ، وظنوه نقصاً وعيباً ، وليس الأمر كما زعموا ، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع ، وهو مرض من الأمراض ، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما ، وقد ثبت في  الصحيحين  عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ، ولم يأتهن ، وذلك أشد ما يكون من السحر .

 

قال القاضي عياض : والسحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ، كأنواع الأمراض مما لا ينكر ، ولا يقدح في نبوته ، وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شئ من صدقة ، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ، ولا فضل من أجلها ، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه كما كان .

 

والمقصود : ذكر هديه في علاج هذا المرض ، وقد روي عنه فيه نوعان :

أحدهما - وهو أبلغهما - : استخراجه وإبطاله ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه سبحانه في ذلك ، فدل عليه ، فاستخرجه من بئر ، فكان في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر ، فلما استخرجه ، ذهب ما به ، حتى كأنما أنشط من عقال ، فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب ، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالإستفراغ .

والنوع الثانى : الإستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر ، فإن للسحر تأثيراً في الطبيعة ، وهيجان أخلاطها ، وتشويش مزاجها ، فإذا ظهر أثره في عضو ، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو ، نفع جداً .

وقد ذكر أبو عبيد في كتاب  غريب الحديث  له بإسناده ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب . قال أبو عبيد : معنى طب : أي سحر .

 

وقد أشكل هذا على من قل علمه ، وقال : ما للحجامة والسحر ، وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء ، ولو وجد هذا القائل أبقراط ، أو ابن سينا ، أو غيرهما قد نص على هذا العلاج ، لتلقاه بالقبول والتسليم ، وقال : قد نص عليه من لا يشك في معرفته وفضله .

فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به صلى الله عليه وسلم انتهت إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولم يفعله ، وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه ، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية .

والسحر : هو مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة ، وانفعال القوى الطبيعية عنها ، وهو أشد ما يكون من السحر ، ولا سيما في الموضع الذي انتهى السحر إليه ، واستعمال الحجامة على ذلك المكان الذي تضررت أفعاله بالسحر من أنفع المعالجة إذا استعملت على القانون الذي ينبغي .

 

قال أبقراط : الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها .

وقالت طائفة من الناس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الداء ، وكان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ، ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ ، وغلبت على البطن المقدم منه ، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له ، وكان استعمال الحجامة إذ ذاك من أبلغ الأدوية ، وأنفع المعالجة ، فاحتجم ، وكان ذلك قبل أن يوحى إليه أن ذلك من السحر ، فلما جاءه الوحي من الله تعالى ، وأخبره أنه قد سحر ، عدل إلى العلاج الحقيقي وهو استخراج السحر وإبطاله ، فسأل الله سبحانه ، فدله على مكانه ، فاستخرجه ، فقام كأنما أنشط من عقال ، وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده، وظاهر جوارحه ، لا على عقله وقلبه ، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه من إتيان النساء ، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له ، ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض ، والله أعلم .

 

فصل

ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية ، بل هي أدويته النافعة بالذات ، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار ، والآيات ، والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها ، وكلما كانت أقوى وأشد ، كانت أبلغ في القشرة ، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما عدته وسلاحه ، فأيهما غلب الآخر ، قهره ، وكان الحكم له ، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره ، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه ، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه .

 

وعند السحرة : أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة ، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات ، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء ، والصبيان ، والجهال ، وأهل البوادي ، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية .

وبالجملة : فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون ميلها إلى السفليات ، قالوا : والمسحور هو الذي يعين على نفسه ، فإنا نجد قلبه متعلقاً بشئ كثير الإلتفات إليه ، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والإلتفات ، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة ، وبفراغها من القوة الإلهية ، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها ، فتجدها فارغة لا عدة معها ، وفيها ميل إلى ما يناسبها ، فتتسلط عليها ، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره ، والله أعلم .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في الإستفراغ بالقئ

روى الترمذي في  جامعه  عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء ، فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق ، فذكرت له ذلك ، فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءه . قال الترمذي : وهذا أصح شئ في الباب .

القئ : أحد الإستفراغات الخمسة التي هي أصول الإستفراغ ، وهي الإسهال ، والقئ ، وإخراج الدم ، وخروج الأبخرة والعرق ، وقد جاءت بها السنة .

فأما الإسهال : فقد مر في حديث " خير ما تداويتم به المشي " وفي حديث " السنا " .

وأما إخراج الدم ، فقد تقدم في أحاديث الحجامة .

وأما استفراغ الأبخرة ، فذكره عقب هذا الفصل إن شاء الله .

وأما الإستفراغ بالعرق ، فلا يكون غالباً بالقصد ، بل بدفع الطبيعة له إلى ظاهر الجسد ، فيصادف المسام مفتحة ، فيخرج منها .

والقئ استفراغ من أعلا المعدة ، والحقنة من أسفلها ، والدواء من أعلاها وأسفلها ، والقئ : نوعان : نوع بالغلبة والهيجان ، ونوع بالإستدعاء والطلب . فأما الأول : فلا يسوغ حبسه ودفعه إلا إذا أفرط وخيف منه التلف . فيقطع بالأشياء التي تمسكه . وأما الثاني : فأنفعه عند الحاجة إذا روعي زمانه وشروطه التي تذكر .

 

وأسباب القئ عشرة .

أحدها : غلبة المرة الصفراء ، وطفوها على رأس المعدة ، فتطلب الصعود .

الثاني : من غلبة بلغم لزج قد تحرك في المعدة ، واحتاج إلى الخروج .

الثالث : أن يكون من ضعف المعدة في ذاتها ، فلا تهضم الطعام ، فتقذفه إلى جهة فوق .

الرابع : أن يخالطها خلط رديء ينصب إليها ، فيسيء هضمها ، ويضعف فعلها .

الخامس : أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذي تحتمله المعدة ، فتعجز عن إمساكه ، فتطلب دفعه وقذفه .

السادس : أن يكون من عدم موافقة المأكول والمشروب لها ، وكراهتها له ، فتطلب دفعه وقذفه .

السابع : أن يحصل فيها ما يثور الطعام بكيفيته وطبيعته ، فتقذف به .

الثامن : القرف ، وهو موجب غثيان النفس وتهوعها .

التاسع : من الأعراض النفسانية ، كالهم الشديد ، والغم ، والحزن ، وغلبة اشتغال الطبيعة والقوى الطبيعية به ، واهتمامها بوروده عن تدبير البدن ، وإصلاح الغذاء ، وإنضاجه ، وهضمه ، فتقذفه المعدة ، وقد يكون لأجل تحرك الأخلاط عند تخبط النفس ، فإن كل واحد من النفس والبدن ينفعل عن صاحبه ، ويؤثر في كيفيته .

العاشر : نقل الطبيعة بأن يرى من يتقيأ ، فيغلبه هو القئ من غير استدعاء ، فإن الطبيعة نقالة .

وأخبرني بعض حذاق الأطباء ، قال : كان لي ابن أخت حذق في الكحل ، فجلس كحالاً ، فكان إذا فتح عين الرجل ، ورأى الرمد وكحله ، رمد هو ، وتكرر ذلك منه ، فترك الجلوس . قلت له : فما سبب ذلك ؟ قال : نقل الطبيعة ، فإنها نقالة ، قال : وأعرف آخر ، كان رأى خراجاً في موضع من جسم رجل يحكه ، فحك هو ذلك الموضع ، فخرجت فيه خراجة . قلت : وكل هذا لا بد فيه من

استعداد الطبيعة ، وتكون المادة ساكنة فيها غير متحركة ، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب ، فهذه أسباب لتحرك المادة لا أنها هي الموجبة لهذا العارض .

 

فصل

ولما كانت الأخلاط فى البلاد الحارة ، والأزمنة الحارة ترق وتنجذب إلى فوق ، كان القئ فيها أنفع . ولما كانت في الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلظ ، ويصعب جذبها إلى فوق ، كان استفراغها ، بالإسهال أنفع .

وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والإستفراغ ، والجذب يكون من أبعد الطرق ، والإستفراغ من أقربها ، والفرق بينهما أن المادة إذا كانت عاملة في الإنصباب أو الترقي لم تستقر بعد ، فهي محتاجة إلى الجذب ، فإن كانت متصاعدة جذبت من أسفل ، وإن كانت منصبة جذبت من فوق ، وأما إذا اسقرت في موضعها ، استفرغت من أقرب الطرق إليها ، فمتى أضرت المادة بالأعضاء العليا ، اجتذبت من أسفل ، ومتى أضرت بالأعضاء السفلى ، اجتذبت من فوق ، ومتى استقرت ، استفرغت من أقرب مكان إليها ، ولهذا احتج النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله تارة ، وفي رأسه أخرى ، وعلى ظهر قدمه تارة ، فكان يستفرغ مادة الدم المؤذي من أقرب مكان إليه . والله أعلم .

 

فصل

والقئ ينقي المعدة ويقويها ، ويحد البصر ، ويزيل ثقل الرأس ، وينفع قروح الكلى ، والمثانة ، والامراض المزمنة كالجذام والإستسقاء ، والفالج والرعشة ، وينفع اليرقان .

ويبنغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور ، ليتدارك الثاني ما قصر عنه الأول ، وينقي الفضلات التي انصبت بسببه ، والإكثار منه يضر المعدة ، ويجعلها قابلة للفضول ، ويضر بالأسنان والبصر والسمع ، وربما صدع عرقاً ، ويجب أن يجتنبه من به ورم في الحلق ، أو ضعف في الصدر ، أو دقيق الرقبة ، أو مستعد لنفث الدم ، أو عسر الإجابة له .

وأما ما يفعله كثير ممن يسيء التدبير ، وهو أن يمتلئ من الطعام ، ثم يقذفه ، ففيه آفات عديدة ، منها : أنه يعجل الهرم ، ويوقع في أمراض رديئة ، ويجعل القئ له عادة . والقئ مع اليبوسة ، وضف الأحشاء ، وهزال المراق . أو ضعف المستقيء خطر . . .

وأحمد أوقاته الصيف والربيع دون الشتاء والخريف ، وينبغي عند القئ أن يعصب العينين ، ويقمط البطن ، ويغسل الوجه بماء بارد عند الفراغ ، وان يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مصطكى ، وماء الورد ينفعه نفعاً بيناً .

والقئ يستفرغ من أعلى المعدة ، ويجذب من أسفل ، والإسهال بالعكس ، قال أبقراط : وينبغي أن يكون الإستفراغ في الصيف من فوق أكثر من الإستفراغ بالدواء ، وفي الشتاء من أسفل .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحذق الطبيبين

ذكر مالك في  موطئه  : عن زيد بن أسلم ، أن رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح ، فاحتقن الجرح الدم، وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار ، فنظرا إليه فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : " أيكما أطب  ؟ فقال : أوفي الطب خير يا رسول الله ؟ فقال :  أنزل الدواء الذي أنزل الداء " .

ففي هذا الحديث أنه ينبغي الإستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق ، فإنه إلى الإصابة أقرب .

وهكذا يجب على المستفتي أن يستعين على ما نزل به بالأعلم فالأعلم ، لأنه أقرب إصابة ممن هو دونه .

وكذلك من خفيت عليه القبلة ، فإنه يقلد أعلم من يجده ، وعلى هذا فطر الله عباده ، كما أن المسافر في البر والبحر إنما سكون نفسه ، وطمأنينته إلى أحذق الدليلين وأخبرهما ، وله يقصد ، وعليه يعتمد ، فقد اتفقت على هذا الشريعة والفطرة والفعل .

وقوله صلى الله عليه وسلم : " أنزل الدواء الذي أنزل الداء " ، قد جاء مثله عنه في أحاديث كثيرة ، فمنها ما رواه عمرو بن دينار ، عن هلال بن يساف ، قال : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده ، فقال :  أرسلوا إلى طبيب  ، فقال قائل : وأنت تقول ذلك يا رسول الله ؟ قال :  نعم إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء " .

وفي  الصحيحين  من حديث أبي هريرة يرفعه : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " ، وقد تقدم هذا الحديث وغيره .

واختلف في معنى  أنزل الداء والدواء  ، فقالت طائفة : إنزاله إعلام العباد به ، وليس بشئ ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه ، وأكثر الخلق لا يعملون ذلك ، ولهذا قال : " علمه من علمه ، وجهله من جهله " .

وقالت طائفة : إنزالهما : خلقهما ووضعهما في الأرض ، كما في الحديث الآخر : " إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء " ، وهذا وإن كان أقرب في الذي قبله ، فلفظة الإنزال أخص من لفظة الخلق والوضع ، فلا ينبغي إسقاط خصوصية اللفظة بلا موجب .

وقالت طائفة : إنزالهما بواسطة الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغير ذلك ، فإن الملائكة موكلة بأمر هذا العالم ، وأمر النوع الإنساني من حين سقوطه في رحم أمه إلى حين موته ، فإنزال الداء والدواء مع الملائكة ، وهذا أقرب من الوجهين قبله .

وقالت طائفة : إن عامة الأدواء والأدوية هي بواسطة إنزال الغيث من السماء الذي تتولد به الأغذية ، والأقوات ، والأدوية ،  والأدواء ، وآلات ذلك كله ، وأسبابه ومكملاته ، وما كان منها من المعادن العلوية ، فهي تنزل من الجبال ، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار ، فداخل في اللفظ على طريق التغليب والإكتفاء عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما ، وهو معروف من لغة العرب ، بل وغيرها من الأمم ، كقول الشاعر :

علفتها تبنا وماء بارداً         حتى غدت همالة عيناها

وقول الآخر :

ورأيت زوجك قــد غدا         متقلـــداً سيفـــاً ورمحـــاً

وقول الآخر :

إذا ما الغانيات برزن يوماً         وزججن الحواجب والعيونا

وهذا أحسن مما قبله من الوجوه والله أعلم .

وهذا من تمام حكمة الرب عز وجل ، وتمام ربوبيته ، فإنه كما ابتلى عباده بالأدواء ، أعانهم عليها بما يسره لهم من الأدوية ، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة ، والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثة من الشياطين ، أعانهم عليها بجند من الأرواح الطيبة ، وهم الملائكة . وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسره لهم شرعاً وقدراً من المشتهيات اللذيذة النافعة ، فما ابتلاكم سبحانه بشئ إلا أعطاهم ما يستعينون به على ذلك البلاء ، ويدفعونه به ، ويبقى التفاوت بينهم في العلم بذلك ، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه ، وبالله المستعان .

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في تضمين من طب الناس ، وهو جاهل بالطب

روى أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك ، فهو ضامن " .

هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أمور : أمر لغوي ، وأمر فقهي ، وأمر طبي .

فأما اللغوي : فالطب بكسر الطاء في لغة العرب ، يقال : على معان . منها الإصلاح ، يقال : طببته : إذا أصلحته . ويقال : له طب بالأمور . أي : لطف وسياسة . قال الشاعر :

وإذا تغير من تميم أمرها        كنت الطبيب لها برأي ثاقب

ومنها : الحذق . قال الجوهري : كل حاذق طبيب عند العرب ، قال أبو عبيد : أصل الطب : الحذق بالأشياء والمهارة بها . يقال للرجل : طب وطبيب : إذا كان كذلك ، وإن كان في غير علاج المريض . وقال غيره : رجل طبيب : أي حاذق ، سمي طبيباً لحذقه وفطنته . قال علقمة :

فإن تسألوني بالنساء فإنني       خبير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله        فليس له من ودهن نصيب

وقا ل عنترة :

إن تغد في دوني القناع فإنني       طب بأخذ الفارس المستلئم

أي : إن ترخي عني قناعك ، وتستري وجهك رغبة عني ، فإني خبير حاذق بأخذ الفارس الذي قد لبس لأمة حربه .

ومنها : العادة ، يقال : ليس ذاك بطبي ، أي : عادتي ، قال فروة بن مسيك :

فما إن طبنا جبن ولكن      منايانا ودولة آخرينا

 

وقال أحمد بن الحسين المتنبي :

وما التيه طبي فيهم غير أنني      بغيض إلي الجاهل المتعاقل

ومنها : السحر ، يقال : رجل مطبوب ، أي : مسحور ، وفي  الصحيح  في حديث عائشة لما سحرت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجلس الملكان عند رأسه وعند رجليه ، فقال أحدهما : ما بال الرجل ؟ قال الآخر : مطبوب . قال : من طبه ؟ قال : فلان اليهودي .

قال أبو عبيد : إنما قالوا للمسحور : مطبوب ، لأنهم كنوا بالطب عن السحر ، كما كنوا عن اللديغ ، فقالوا : سليم تفاولاً بالسلامة ، وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها ، فقالوا : مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك . ويقال : الطب لنفس الداء . قال ابن أبي الأسلت :

ألا من مبلغ حسان عني      أسحر كان طبك أم جنون

وأما قول الحماسي :

فإن كنت مطبوباً فلا زلت هكذا      وإن كنت مسحوراً فلا برئ السحر

فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سحر ، وأراد بالمسحور : العليل بالمرض .

قال الجوهري : ويقال للعليل : مسحور . وأنشد البيت . ومعناه : إن كان هذا الذي قد عراني منك ومن حبك أسأل الله دوامه ، ولا أريد زواله ، سواء كان سحراً أو مرضاً .

والطب : مثلث الطاء ، فالمفتوح الطاء : هو العالم بالأمور ، وكذلك الطبيب يقال له : طب أيضاً . والطب : بكسر الطاء : فعل   الطبيب ، والطب بضم الطاء : اسم موضع ، قاله ابن السيد ، وأنشد :

فقلت هل انهلتم بطب ركابكم      بجائزة الماء التي طاب طينها

وقوله صلى الله عليه وسلم :  من تطبب  ، ولم يقل : من طب ، لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشئ والدخول فيه بعسر وكلفه ، وأنه ليس من أهله ، كتحلم وتشجع وتصبر ونظائرها ، وكذلك بنوا تكلف على هذا الوزن ، قال الشاعر :

وقيس عيلان ومن تقيسا وأما الأمر الشرعي ، فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل ، فإذا تعاطى علم الطب وعمله ، ولم يتقدم له به معرفة ، فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس ، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه ، فيكون قد غرر بالعليل ، فيلزمه الضمان لذلك ، وهذا إجماع من أهل العلم .

 

قال الخطابي : لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى ، فتلف المريض كان ضامناً ، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعد ، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية ، وسقط عنه القود ، لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته .

 

قلت : الأقسام خمسة : أحدها : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده ، فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ، ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس ، أو ذهاب صفة ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً ، فإنها سراية مأذون فيه ، وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت ، وسنه قابل للختان ، وأعطى الصنعة حقها ، فتلف العضو أو الصبي ، لم يضمن ، وكذلك إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به ، لم يضمن ، وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها ، كسراية الحد بالإتفاق . وسراية القصاص عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها ، وسراية التعزير ، وضرب الرجل امرأته ، والمعلم الصبي ، والمستأجر الدابة ، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في إيجابهما الضمان في ذلك ، واستثنى الشافعي ضرب الدابة .

وقاعدة الباب إجماعاً ونزاعاً : أن سراية الجناية مضمونة بالإتفاق ، وسراية الواجب مهدرة بالإتفاق ، وما بينهما ففيه النزاع . فأبو حنيفة أوجب ضمانه مطلقاً ، وأحمد ومالك أهدرا ضمانه ، وفرق الشافعي بين المقدر ، فأهدر ضمانه ، وبين غير المقدر فأوجب ضمانه . فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة ، وأحمد ومالك نظرا إلى أن الإذن أسقط الضمان ، والشافعي نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه ، فهو بمنزلة النص ، وأما غير المقدر كالتعزيرات ، والتأديبات ، فاجتهادية ، فإذا تلف بها ، ضمن ، لأنه في مظنة العدوان .

 

فصل

القسم الثاني : متطبب جاهل باشرت يده من يطبه ، فتلف به ، فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له ، وأذن له في طبه لم يضمن ، ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث ، فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل ، وأوهمه أنه طبيب ، وليس كذلك ، وإن ظن المريض أنه طبيب ، وأذن له في طبه لأجل معرفته ، ضمن الطبيب ما جنت يده ، وكذلك إن وصف له دواء  يستعمله ، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به ، ضمنه ، والحديث ظاهر فيه أو صريح .

 

 

فصل

القسم الثالث : طبيب حاذق ، أذن له ، وأعطى الصنعة حقها ، لكنه أخطأت يده ، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه ، مثل : أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة ، فهذا يضمن ، لأنها جناية خطأ ، ثم إن كانت الثلث فما زاد ، فهو على عاقلته ، فإن لم تكن عاقلة، فهل تكون الدية في ماله ، أو في بيت المال ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد . وقيل : إن كان الطبيب ذمياً ، ففي ماله ، وإن كان مسلماً ، ففيه الروايتان ، فإن لم يكن بيت مال ، أو تعذر تحميله ، فهل تسقط الدية ، أو تجب في مال الجاني ؟ فيه وجهان أشهرهما : سقوطها .

 

فصل

القسم الرابع : الطبيب الحاذق الماهر بصناعته ، اجتهد فوصف للمريض دواء ، فأخطأ في اجتهاده ، فقتله ، فهذا يخرج على روايتين : إحداهما : أن دية المريض في بيت المال . والثانية : أنها على عاقلة الطبيب ، وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطإ الإمام والحاكم .

 

فصل

القسم الخامس : طبيب حاذق ، أعطى الصنعة حقها ، فقطع سلعة من رجل أو صبي ، أو مجنون بغير إذنه ، أو إذن وليه ، أو ختن صبياً بغير إذن وليه فتلف ، فقال أصحابنا : يضمن ، لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه ، وإن أذن له البالغ ، أو ولي الصبي والمجنون ، لم يضمن ، ويحتمل أن لا يضمن مطلقاً لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل . وأيضاً فإنه إن كان متعدياً ، فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان ، وإن لم يكن متعدياً ، فلا وجه لضمانه . فإن قلت : هو متعد عند عدم الإذن ، غير متعد عند الإذن ، قلت : العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو ، فلا أثر للإذن وعدمه فيه ، وهذا موضع نظر .

 

فصل

والطبيب في هذا الحديث يتناول من يطب بوصفه وقوله ، وهو الذي يخص باسم الطبائعي ، وبمروده ، وهو الكحال ، وبمبضعه ومراهمه وهو الجرائحي ، وبموساه وهو الخاتن ، وبريشته وهو الفاصد ، وبمحاجمه ومشرطه وهو الحجام ، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المجبر ، وبمكواته وناره وهو الكواء ، وبقربته وهو الحاقن ، وسواء كان طبه لحيوان بهيم ، أو إنسان ، فاسم الطبيب يطلق لغة على هؤلاء كلهم ، كما تقدم ، وتخصيص الناس له ببعض أنواع الأطباء عرف حادث ، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصها به كل قوم .

 

 

فصل

والطبيب الحاذق : هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمراً : أحدها : النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو ؟

الثاني : النظر في سببه من أي شئ حدث ، والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوثه ما هي ؟ .

الثالث : قوة المريض ، وهل هي مقاومة للمرض ، أو أضعف منه ؟ فإن كانت مقاومة للمرض ، مستظهرة عليه ، تركها والمرض ، ولم يحرك بالدواء ساكناً .

الرابع : مزاج البدن الطبيعي ما هو ؟

الخامس : المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي .

السادس : سن المريض .

السابع : عادته .

الثامن : الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به .

التاسع : بلد المريض وتربته .

العاشر : حال الهواء في وقت المرض .

الحادي عشر : النظر في الدواء المضاد لتلك العلة .

الثاني عشر : النظر في قوة الدواء ودرجته ، والموازنة بينها وبين قوة المريض .

الثالث عشر : ألا يكون كل قصده إزالة تلك العلة فقط ، بل إزالتها على وجه يأمن معه حدوث أصعب منها ، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث علة أخرى أصعب منها ، أبقاها على حالها ، وتلطيفها هو الواجب ، وهذا كمرض أفواه العروق ، فإنه متى عولج بقطعه وحبسه خيف حدوث ما هو أصعب منه .

 

الرابع عشر : أن يعالج بالأسهل فالأسهل ، فلا ينتقل من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذره ، ولا ينتقل إلى الدواء المركب إلا عند تعذر الدواء البسيط ، فمن حذق الطبيب علاجه بالأغذية بدل الأدوية ، وبالأدوية البسيطة بدل المركبة .

الخامس عشر : أن ينظر في العلة ، هل هي مما يمكن علاجها أو لا ؟ فإن لم يمكن علاجها ، حفظ صناعته وحرمته ، ولا يحمله الطمع على علاج لا يفيد شيئاً . وإن أمكن علاجها ، نظر هل يمكن زوالها أم   لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالها ، نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا ؟ فإن لم يكن تقليلها ، ورأى أن غاية الإمكان إيقافها وقطع زيادتها ، قصد بالعلاج ذلك ، وأعان القوة ، وأضعف المادة .

السادس عشر : ألا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ ، بل يقصد إنضاجه ، فإذا تم نضجه ، بادر إلى استفراغه .

السابع عشر : أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها ، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان ، فإن انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمر مشهود ، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما ، كان هو الطبيب الكامل ، والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب . وكل طبيب لا يداوي العليل ، بتفقد قلبه وصلاحه ، وتقوية روحه وقواه بالصدقة ، وفعل الخير ، والإحسان ، والإقبال على الله والدار الآخرة ، فليس بطبيب ، بل متطبب قاصر . ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء ، والتضرع والإبتهال إلى الله ، والتوبة ، ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل ، وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية ، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولها وعقيدتها في ذلك ونفعه .

 

الثامن عشر : التلطف بالمريض ، والرفق به ، كالتلطف بالصبي .

التاسع عشر : أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية ، والعلاج بالتخييل ، فإن لحذاق الأطباء في التخييل أموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء ، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين .

العشرون : - وهو ملاك أمر الطبيب - ، أن يجعل علاجه وتدبيره دائراً على ستة أركان : حفظ الصحة الموجودة ، ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان ، وإزالة العلة أو تقليلها بحسب الإمكان ، واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما ، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما ، فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج ، وكل طبيب لا تكون هذه أخيته التي يرجع إليها ، فليس بطبيب ، والله أعلم .

 

فصل

ولما كان للمرض أربعة أحوال : ابتداء ، وصعود ، وانتهاء ، وانحطاط ، تعين على الطبيب مراعاة كل حال من أحوال المرض بما يناسبها ويليق بها ، ويستعمل في كل حال ما يجب استعماله فيها . فإذا رأى في ابتداء المرض أن الطبيعة محتاجة إلى ما يحرك الفضلات ويستفرغها لنضجها ، بادر إليه ، فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك ، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للإستفراغ ، أو لبرودة الفصل ، أو لتفريط وقع ، فينبغي أن يحذر كل الحذر أن يفعل ذلك في صعود المرض ، لأنه إن فعله ، تحيرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء ، وتخلت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية ، ومثاله : أن يجيء إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه ، فيشغله عنه بأمر آخر ، ولكن الواجب في هذه الحال أن يعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه .

 

فإذا انتهى المرض ووقف وسكن ، أخذ في استفراغه ، واستئصال أسبابه ، فإذا أخذ في الإنحطاط ، كان أولى بذلك . ومثال هذا مثال العدو إذا انتهت قوته ، وفرغ سلاحه ، كان أخذه سهلاً ، فإذا ولى وأخذ في الهرب ، كان أسهل أخذاً ، وحدته وشوكته إنما هي في ابتدائه ، وحال استفراغه ، وسمعة قوته ، فهكذا الداء ، والدواء سواء .

 

فصل

ومن حذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل ، فلا يعدل إلى الأصعب ، ويتدرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فوت القوة حينئذ ، فيجب أن يبتدئ بالأقوى ، ولا يقيم في المعالجة على حال واحدة فتألفها الطبيعة ، ويقل انفعالها عنه ، ولا تجسر على الأدوية القوية في الفصول القوية ، وقد تقدم أنه إذا أمكنه العلاج بالغذاء ، فلا يعالج بالدواء ، وإذا أشكل عليه المرض أحار هو أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبين له ، ولا يجربه بما يخاف عاقبته ، ولا بأس بتجربته بما لا يضر أثره .

وإذا اجتمعت أمراض ، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال : إحداها : أن يكون برء الآخر موقوفاً على برئه كالورم والقرحة ، فإنه يبدأ بالورم .

الثانية : أن يكون أحدها سبباً للآخر ، كالسدة والحمى العفنة ، فإنه يبدأ بإزالة السبب .

الثالثة : أن يكون أحدهما أهم من الآخر ، كالحاد والمزمن ، فيبدأ بالحاد ، ومع هذا فلا يغفل عن الآخر . وإذا اجتمع المرض والعرض ، بدأ بالمرض ، إلا أن يكون العرض أقوى كالقولنج ، فيسكن الوجع أولاً ، ثم يعالج السدة ، وإذا أمكنه أن يعتاض عن المعالجة بالإستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم ، لم يستفرغه ، وكل صحة أراد حفظها ، حفظها بالمثل أو الشبه ، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضل منها ، نقلها بالضد .

 

 

 

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها

ثبت في  صحيح مسلم  من حديث جابر بن عبد الله ، أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : " ارجع فقد بايعناك " .

وروى البخاري في  صحيحه  تعليقاً من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " فر من المجذوم كما تفر من الأسد " .

وفي  سنن ابن ماجه  من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تديموا النظر إلى المجذومين " .

وفي  الصحيحين  من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يوردن ممرض على مصح " .

ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم : " كلم المجذوم ، وبيك وبينه قيد رمح أو رمحين " .

الجذام : علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله ، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها ، وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط ، ويسمى داء الأسد .

وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء : أحدها : أنها لكثرة ما تعتري الأسد .

والثاني : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد .

والثالث : أنه يفترس من يقربه ، أو يدنو منه بدائه افتراس الأسد .

 

وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة ، ومقارب المجذوم ، وصاحب السل يسقم برائحته ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على الأمة ، ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم ، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء ، وقد تكون الطبيعة سريعة الإنفعال قابلة للإكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه ، فإنها نقالة ، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها ، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع ، وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه ، وهذا معاين في بعض الأمراض ، والرائحة أحد أسباب العدوى ، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء ، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، فلما أراد الدخول بها ، وجد بكشحها بياضاً ، فقال : " الحقي بأهلك " .

وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها ، فمنها : ما رواه الترمذي ، من حديث جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ، وقال : " كل بسم الله ثقة بالله ، وتوكلاً عليه " ، ورواه ابن ماجه .

وبما ثبت في  الصحيح  ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عدوى ولا طيرة " .

ونحن نقول : لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة . فإذا وقع التعارض ، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً ، فالثقة يغلظ ، أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ ، أو يكون التعارض في فهم السامع ، لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم ، فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة .

وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ، ليس أحدهما ناسخاً للآخر ، فهذا لا يوجد أصلاً ، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق ، والآفة من التقصير في معرفة المنقول ، والتمييز بين صحيحه  ومعلوله ، أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معاً ، ومن ها هنا وقع من الإختلاف والفساد ما وقع ، وبالله التوفيق .

 

قال ابن قتيبة في كتاب  اختلاف الحديث  له حكاية عن أعداء الحديث وأهله ، قالوا : حديثان متناقضان رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عدوى ولا طيرة " . وقيل له : إن النقبة تقع بمشفر البعير ، فيجرب لذلك الإبل . قال : " فما أعدى الأول " ، ثم رويتم " لا يورد ذو عاهة على مصح ، وفر من المجدوم فرارك من الأسد " ، وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام ، فأرسل إليه البيعة ، وأمره بالإنصراف ، ولم يأذن له ، وقال : " الشؤم في المرأة والدار والدابة " . قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضاً .

قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلاف ، ولكل معنى منها وقت وموضع ، فإذا وضع موضعه زال الإختلاف .

والعدوى جنسان : أحدهما : عدوى الجذام ، فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم ، فتضاجعه في شعار واحد ، فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت ، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه ، وكذلك من كان به سل ودق ونقب . والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم ، ولا يريدون بذلك معنى العدوى ، وإنما يريدون به معنى تغير الرائحة ، وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها ، والأطباء أبعد الناس عن الايمان بيمن وشؤم ، وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل أو حاكها ، وأوى في مباركها ، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه ، وبالنطف نحو ما به ، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يورد ذو عاهة على مصح " ، كره أن يخالط المعيوه الصحيح ، لئلا يناله من نطفه وحكته نحو مما به .

قال : وأما الجنس الآخر من العدوى ، فهو الطاعون ينزل ببلد ، فيخرج منه خوف العدوى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا وقع ببلد ، وأنتم به ، فلا تخرجوا منه ، وإذا كان ببلد ، فلا تدخلوه " يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ، ويريد إذا كان ببلد ، فلا تدخلوه ، أي : مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم ، وأطيب لعيشكم ، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار ، فينال الرجل مكروه أو جائحة ، فيقول : أعدتني بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى " .

 

وقالت فرقة أخرى : بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الإستحباب ، والإختيار ، والإرشاد ، وأما الأكل معه ، ففعله لبيان الجواز ، وأن هذا ليس بحرام .

وقالت فرقة أخرى : بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي ، فكل واحد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله ، فبعض الناس يكون قوي الإيمان ، قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى ، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها ، وبعض الناس لا يقوى على ذلك ، فخاطبه بالإحتياط والأخذ بالتحفظ ، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم فعل الحالتين معاً ، لتقتدي به الأمة فيهما ، فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله ، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والإحتياط ، وهما طريقان صحيحان . أحدهما : للمؤمن القوي ، والآخر للمؤمن الضعيف ، فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم ، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم كوى ، وأثنى على تارك الكي ، وقرن تركه بالتوكل ، وترك الطيرة ، ولهذا نظائر كثيرة ، وهذه طريقة لطيفة حسنة جداً من أعطاها حقها ، ورزق فقه

نفسه فيها ، أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسنة الصحيحة .

 

وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه ، ومجانبته لأمر طبيعي ، وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح ، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له ، وأما أكله معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ولحظة واحدة ، فنهى سداً للذريعة ، وحماية للصحة ، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة ، فلا تعارض بين الأمرين .

وقالت طائفة أخرى : يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله ، وليس الجذمى كلهم سواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم ، بل منهم من لا تضر مخالطته ، ولا تعدي ، وهو من أصابه من ذلك شئ يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يعد بقية جسمه ، فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى .

وقالت فرقة أخرى : إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك ، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي ، ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ، ففي نهيه إثبات الأسباب ، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشئ ، بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئاً ، وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت .

وقالت فرقة أخرى : بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ ، فينظر في تاريخها ، فإن علم المتأخر منها ، حكم بأنه الناسخ ، وإلا توقفنا فيها .

 

وقالت فرقة أخرى : بل بعضها محفوظ ، وبعضها غير محفوظ ، وتكلمت في حديث  لا عدوى  ، وقالت : قد كان أبو هريرة يرويه أولاً ، ثم شك فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا : سمعناك تحدث به ، فأبى أن يحدث به .

قال أبو سلمة : فلا أدري ، أنسي أبو هريرة ، أم نسخ أحد الحديثين الآخر ؟

وأما حديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ، فحديث لا يثبت ولا يصح ، وغاية ما قال فيه الترمذي : إنه غريب ، لم يصححه ولم يحسنه . وقد قال شعبة وغيره : اتقوا هذه الغرائب . قال الترمذي : ويروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي ، أحدهما : رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره ، والثاني : لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب   المفتاح  بأطول من هذا ، وبالله التوفيق .

 

يتبـــــــــــــــع >>>