الطب النبــــــــوي
الجزء الثالث
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين
في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية
الإلهية
في هديه
صلى الله عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة
في هديه
صلى الله عليه وسلم في علاج لدغة العقرب بالرقية
في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية النملة
في هديه
صلى الله عليه وسلم في رقية الحية
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الوجع بالرقية
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها
في هديه
صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن
في بيان
جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض
في هديه
صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع ، والأرق المانع من
النوم
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج داء الحريق وإطفائه
في هديه
صلى الله عليه وسلم في حفظ الصحة بالطيب
في هديه
صلى الله عليه وسلم في حفظ صحة العين
فصل
في هديه صلى الله
عليه وسلم في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود
في سننه
من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ، ولا تداووا
بالمحرم " .
وذكر البخاري
في صحيحه
عن ابن مسعود : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم .
وفي السنن : عن
أبي هريرة ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث .
وفي صحيح مسلم
عن طارق بن سويد الجعفي ، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر ،
فنهاه ، أو كره أن يصنعها ، فقال : إنما
أصنعها للدواء ، فقال : " إنه ليس بدواء ، ولكنه داء " .
وفي السنن
أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء ، فقال : " إنها
داء وليست بالدواء " ، رواه أبو داود ، والترمذي
.
وفي صحيح مسلم
عن طارق بن سويد الحضرمي ، قال : " قلت : يا
رسول الله ! إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها ، قال : لا
فراجعته ، قلت : إنا تستشفي للمريض ، قال : إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء " .
وفي سنن النسائي
أن طبيباً ذكر ضفدعاً في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن
قتلها .
ويذكر عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال : " من تداوى بالخمر ، فلا شفاه
الله " .
المعالجة بالمحرمات
قبيحة عقلاً وشرعاً ، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها ، وأما العقل ،
فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه ، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها
، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم
طيبات أحلت لهم " [ النساء : 160 ] ، وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه ،
ولحريمه له حمية لهم ، وصيانة عن تناوله ،
فلا يناسب أن يطلب
به الشفاء من الأسقام والعلل ، فإنه وإن أثر في إزالتها ، لكنه يعقب سقماً أعظم
منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه ، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن
بسقم القلب .
وأيضاً فإن تحريمه
يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق ، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته ،
وهذا ضد مقصود الشارع ، وأيضاً فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة ، فلا يجوز أن
يتخذ دواء .
وأيضاً فإنه يكسب
الطبيعة والروح صفة الخبث ، لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالاً بيناً ،
فإذا كانت كيفيته خبيثة ، اكتسبت الطبيعة منه خبثاً ، فكيف إذا كان خبيثاً في ذاته
، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة ، لما تكسب
النفس من هيئة الخبث وصفته .
وأيضاً فإن في
إباحة التداوي به ، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة
واللذة ، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها ، فهذا
أحب شئ إليها ، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ، ولا ريب أن بين سد
الذريعة إلى تناوله ، وفتح الذريعة إلى تأوله تناقضاً وتعارضاً .
وأيضاً فإن في هذا
الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء ، ولنفرض الكلام في أم
الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط ، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو
مركز العقل عند الأطباء ، وكثير من الفقهاء والمتكلمين . قال أبقراط في أثناء
كلامه في الأمراض الحادة : ضرر الخمرة بالرأس شديد . لأنه يسرع الإرتفاع إليه . ويرتفع
بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن ، وهو كذلك يضر
بالذهن .
وقال صاحب الكامل : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب . وأما
غيره من الأدوية المحرمة فنوعان :
أحدهما
: تعافه
النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به كالسموم ، ولحوم الأفاعي
وغيرها من المستقذرات ، فيبقى كلاً على الطبيعة مثقلاً لها ، فيصير حينئذ داء لا
دواء .
والثاني
: ما لا
تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلاً ، فهذا ضرره أكثر من نفعه ،
والعقل يقضي بتحريم ذلك ، فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك .
وها هنا سر لطيف في
كون المحرمات لا يستشفى بها ، فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول ، واعتقاد
منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ، فإن النافع هو المبارك ، وأنفع
الأشياء وأبركها ، المبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين
مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها ، وبين حسن ظنه بها ، وتلقيه طبعه لها
بالقبول ، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً ، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها ،
وطبعه أكره شئ لها ، فإذا تناولها في هذه الحال ، كانت داء له لا دواء إلا أن يزول
اعتقاد الخبث فيها ، وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة ، وهذا ينافي الإيمان ، فلا
يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء ، والله أعلم
.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
القمل الذي في الرأس وإزالته
في الصحيحين
عن كعب بن عجرة ، قال : كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : " ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك ما
أرى " ، وفي رواية : فأمره أن يحلق رأسه ، وأن يطعم فرقاً بين ستة ، أو يهدي
شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام .
القمل يتولد في
الرأس والبدن من شيئين : خارج عن البدن وداخل فيه ، فالخارج : الوسخ والدنر
المتراكم في سطح الجسد ، والثاني من خلط رديء عفن تدفعه الطبيعة بين الجلد واللحم
، فيتعفن بالرطوبة الدموية في البشرة بعد خروجها من المسام، فيكون منه القمل ،
وأكثر ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام ، وبسبب الأوساخ ، وإنما كان في رؤوس
الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الاسباب التي تولد القمل ، ولذلك حلق النبي
صلى الله عليه وسلم رؤوس بني جعفر
.
ومن أكبر علاجه حلق
الرأس لتنفتح مسام الأبخرة ، فتتصاعد الأبخرة الرديئة ، فتضعف مادة الخلط ، ويبنغي
أن يطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التي تقتل القمل ، وتمنع تولده .
وحلق الرأس ثلاثة أنواع : أحدها : نسك وقربة . والثاني : بدعة
وشرك ، والثالث : حاجة ودواء ، فالأول : الحلق في أحد النسكين ، الحج أو
العمرة . والثاني : حلق الرأس لغير الله سبحانه ، كما يحلقها المريدون لشيوخهم ،
فيقول أحدهم : أنا حلقت رأسي لفلان ، وأنت حلقته لفلان ، وهذا بمنزلة أن يقول : سجدت
لفلان ، فإن حلق الرأس خضوع وعبودية وذل ، ولهذا كان من تمام الحج ، حتى إنه عند
الشافعي ركن من أركانه لا يتم إلا به ، فإنه وضع النواصي بين يدي ربها خضوعاً
لعظمته ، وتذللاً لعزته ، وهو من أبلغ أنواع العبودية ، ولهذا كانت العرب إذا
أرادت إذلال الأسير منهم وعتقه ، حلقوا رأسه وأطلقوه ، فجاء شيوخ الضلال ،
والمزاحمون للربوبية الذين أساس مشيختهم على الشرك والبدعة ، فأرادوا من مريديهم
أن يتعبدوا لهم ، فزينوا لهم حلق رؤوسهم لهم ، كما زينوا لهم السجود لهم ، وسموه
بغير اسمه ، وقالوا : هو وضع الرأس بين يدي الشيخ ، ولعمر الله إن السجود لله هو
وضع الرأس بين يديه سبحانه ، وزينوا لهم أن ينذروا لهم ، ويتوبوا لهم ، ويحلفوا
بأسمائهم ، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله ، قال تعالى : " ما
كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من
دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا
يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون "
[ آل عمران : 79 - 80 ] .
وأشرف العبودية
عبودية الصلاة ، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة ، فأخذ الشيوخ
منها أشرف ما فيها ، وهو السجود ، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع ، فإذا لقي
بعضهم بعضاً ركع له كما يركع المصلي لربه سواء ، وأخذ الجبابرة منهم القيام ،
فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم ، وهم جلوس ، وقد نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل ، فتعاطيها . مخالفة صريحة له ،
فنهى عن السجود لغير الله وقال : " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد " . وأنكر
على معاذ لما سجد له وقال : مه .
وتحريم هذا معلوم
من دينه بالضرورة ، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله ، وهو من أبلغ
أنواع العبودية ، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر ، فقد جوز العبودية لغير
الله ، وقد صح أنه قيل له : الرجل يلقى أخاه أينحني له ؟ قال : لا . قيل
: أيلتزمه ويقبله قال : لا . قيل : أيصافحه ؟
قال : نعم .
وأيضاً : فالإنحناء
عند التحية سجود ، ومنه قوله تعالى : " وادخلوا الباب سجدا " [ البقرة :
58 ] أي منحنين ، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه ، وصح عنه النهي عن القيام ،
وهو جالس ، كما تعظم الأعاجم بعضها بعضاً ، حتى منع من ذلك في الصلاة ، وأمرهم إذا
صلى جالساً أن يصلوا جلوساً ، وهم أصحاء لا عذر لهم ، لئلا يقوموا على رأسه وهو
جالس ، مع أن قيامهم لله ، فكيف إذا كان القيام تعظيماً وعبودية لغيره سبحانه .
والمقصود : أن
النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه ، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق
، فسجدت لغير الله ، وركعت له ، وقامت بين يديه قيام الصلاة ، وحلفت بغيره ، ونذرت
لغيره ، وحلقت لغيره ، وذبحت لغيره ، وطافت لغير بيته ، وعظمته بالحب ، والخوف ،
والرجاء ، والطاعة ، كما يعظم الخالق ، بل أشد ، وسوت من تعبده من المخلوقين برب
العالمين ، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل ، وهم الذين بربهم يعدلون ، وهم الذين
يقولون - وهم في النار مع آلهتهم يختصمون - :
" تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " [ الشعراء
: 98 ] . وهم الذين قال فيهم : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا
يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله " [ البقرة : 165 ] ، وهذا كله من
الشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به . فهذا فصل معترض في هديه في حلق الرأس ، ولعله أهم مما قصد الكلام فيه ،
والله الموفق .
فصل
فصول في هديه صلى
الله عليه وسلم في العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة ،
والمركبة منها ، ومن الأدوية الطبيعية
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
المصاب بالعين
روى مسلم في صحيحه
عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين حق
ولو كان شئ سابق القدر ، لسبقته العين
" .
وفي صحيحه
أيضاً عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين
والنملة .
وفي الصحيحين
من حديث أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العين
حق " .
وفي سنن أبي داود
عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ، ثم يغتسل منه
المعين .
وفي الصحيحين
عن عائشة قالت : أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن نسترقي من
العين .
وذكر الترمذي ، من
حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة
الزرقي ، أن أسماء بنت عميس ، قالت : يا رسول الله ! إن بني جعفر تصيبهم العين
أفأسترقي لهم ؟ فقال : " نعم فلو كان شئ يسبق القضاء لسبقته العين " قال
الترمذي : حديث حسن صحيح .
وروى مالك رحمه
الله : عن ابن شهاب ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، قال : " رأى عامر بن
ربيعة سهل بن حنيف يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ! قال : فلبط
سهل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً ، فتغيظ عليه وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له ، فغسل له عامر وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ،
وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه ، فراح مع الناس " .
وروى مالك رحمه
الله أيضاً عن محمد بن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه هذا الحديث ، وقال فيه : "
إن العين حق ، توضأ له " . فتوضأ له
.
وذكر عبد الرزاق ،
عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مرفوعاً " العين حق ، ولو كان شيء سابق
القدر ، لسبقته العين ، وإذا استغسل أحدكم ، فليغتسل " ووصله صحيح .
قال الزهري : يؤمر
الرجل العائن بقدح ، فيدخل كفه فيه ، فيتمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ويغسل وجهه في
القدح ، ثم يدخل يده اليسرى ، فيصب على ركبته اليمنى في القدح ، ثم يدخل يده
اليمنى ، فيصب على ركبته اليسرى ، ثم يغسل داخلة إزاره ، ولا يوضع القدح في الأرض
، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة .
والعين : عينان : عين
إنسية ، وعين جنية ، فقد صح عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في
بيتها جارية في وجهها سفعة ، فقال : " استرقوا لها ، فإن بها النظرة " .
قال الحسين بن
مسعود الفراء : وقوله : سفعة . أي نظرة ، يعني : من
الجن ، يقول : بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح .
ويذكر عن جابر يرفعه : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر " .
وعن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ، ومن
عين الإنسان .
فأبطلت طائفة ممن
قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين ، وقالوا : إنما
ذلك أوهام لا حقيقة له ، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل ، ومن أغلظهم حجاباً
، وأكثفهم طباعاً ، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس . وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها ، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع
أمر العين ، ولا تنكره ، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين .
فقالت طائفة : إن
العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة ، انبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين ،
فيتضرر . قالوا : ولا يستنكر هذا ، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل
بالإنسان ، فيهلك ، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على
الإنسان هلك ، فكذلك العائن .
وقالت فرقة أخرى : لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير
مرئية ، فتتصل بالمعين ، وتتخلل مسام جسمه ، فيحصل له الضرر .
وقالت فرقة أخرى : قد
أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه من غير
أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلاً ، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى
والتأثيرات في العالم ، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب
، وخالفوا العقلاء أجمعين .
ولا ريب أن الله
سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة ، وجعل في كثير منها خواص
وكيفيات مؤثرة ، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام ، فإنه أمر مشاهد
محسوس ، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه ،
ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه ، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر وتضعف
قواه ، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح ، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها ،
وليست هي الفاعلة ، وإنما التأثير للروح ، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها
وكيفياتها وخواصها ، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً ، ولهذا أمر الله - سبحانه
- رسوله أن يستعيذ به من شره ، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من
هو خارج عن حقيقة الإنسانية ، وهو أصل الإصابة بالعين ، فإن النفس الخبيثة الحاسدة
تتكيف بكيفية خبيثة ، وتقابل المحسود ،
فتؤثر فيه بتلك الخاصية ، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى ، فإن السم كامن فيها بالقوة
، فإذا قابلت عدوها ، انبعثت منها
قوة غضبية ، وتكيفت
بكيفية خبيثة مؤذية ، فمنها ما تشد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط الجنين ،
ومنها ما تؤثر في طمس البصر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر ، وذي
الطفيتين من الحيات : " إنهما يلتمسان البصر ، ويسقطان الحبل " .
ومنها ، ما تؤثر في
الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به ، لشدة خبث تلك النفس ، وكيفيتها
الخبيثة المؤثرة ، والتأثير غير موقوف على الإتصالات الجسمية ، كما يظنه من قل
علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة ، بل التأثير يكون تارة بالإتصال ، وتارة
بالمقابلة ، وتارة بالرؤية ، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه ، وتارة بالأدعية
والرقى والتعوذات ، وتارة بالوهم والتخيل ، ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على
الرؤية ، بل قد يكون أعمى ، فيوصف له الشئ ، فتؤثر نفسه فيه ، وإن لم يره ، وكثير
من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية ، وقد قال تعالى لنبيه : " وإن
يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر " [ القلم : 51 ] . وقال
: " قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر
النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد " ، فكل عائن حاسد ، وليس كل حاسد
عائناً ، فلما كان الحاسد أعم من العائن ، كانت الإستعاذة منه استعاذة من العائن ،
وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارة وتخطئه تارة
، فإن صادفته مكشوفاً لا وقاية عليه ، أثرت فيه ، ولا بد ، وإن صادفته حذراً شاكي
السلاح لا منفذ فيه للسهام ، لم تؤثر فيه ، وربما ردت السهام على صاحبها ، وهذا
بمثابة الرمي الحسي سواء ، فهذا من النفوس والأرواح ، وذلك من الأجسام والأشباح . وأصله
من إعجاب العائن بالشئ ، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة ، ثم تستعين على تنفيذ سمها
بنظرة إلى المعين ، وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته ، بل بطبعه ، وهذا
أردأ ما يكون من النوع الإنساني ، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء : إن من عرف
بذلك ، حبسه الإمام ، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت ، وهذا هو الصواب قطعاً .
فصل
والمقصود : العلاج
النبوي لهذه العلة ، وهو أنواع ، وقد روى أبو داود في سننه
عن سهل بن حنيف ، قال : مررنا بسيل ، فدخلت ، فاغتسلت فيه ، فخرجت محموماً
، فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مروا أبا ثابت
يتعوذ ، قال : فقلت : يا سيدي ! والرقى صالحة ؟ فقال :
لا رقية إلا في نفس ، أو حمة أو لدغة
" .
والنفس : العين ،
يقال : أصابت فلاناً نفس ، أي : عين . والنافس : العائن . واللدغة - بدال مهملة
وغين معجمة - وهي ضربة العقرب ونحوها
.
فمن التعوذات
والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين ، وفاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، ومنها
التعوذات النبوية .
نحو
: أعوذ
بكلمات الله التامات من شر ما خلق
.
ونحو : أعوذ بكلمات
الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة
.
ونحو : أعوذ بكلمات
الله التامات التي لا يجاورهن بر ولا فاجر ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر ما
ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ، ومن شر ما يخرج
منها ، ومن شر فتن الليل ، والنهار ، ومن شر طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير يا
رحمن .
ومنها : أعوذ
بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن
يحضرون .
ومنها : اللهم إني
أعوذ بوجهك الكريم ، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف
المأثم والمغرم ، اللهم إنه لا يهزم جندك ، ولا يخلف وعدك ، سبحانك وبحمدك .
ومنها : أعوذ بوجه
الله العظيم الذي لا شئ أعظم منه ، وبكلماته التامات التي لا يجاورهن بر لا فاجر ،
وأسماء الله الحسنى ، ما علمت منها وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ ، ومن شر
كل ذي شر لا أطيق شره ، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، إن ربي على صراط مستقيم .
ومنها : اللهم أنت
ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ، ما شاء الله كان ، وما
لم يشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، أعلم أن الله على كل شئ قدير ، وأن
الله قد أحاط بكل شئ علماً ، وأحصى كل شئ عدداً ، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ،
وشر الشيطان وشركه ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم .
وإن شاء قال : تحصنت
بالله الذي لا إله إلا هو ، إلهي وإله كل شئ ، واعتصمت بربي ورب كل شئ ، وتوكلت
على الحي الذي لا يموت ، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله ، حسبي الله
ونعم الوكيل ، حسبي الرب من العباد ، حسبي الخالق من المخلوق ، حسبي الرازق من
المرزوق ، حسبي الذي هو حسبي ، حسبي الذي بيده ملكوت كل شئ ، وهو يجير ولا يجار
عليه ،
حسبي الله وكفى ، سمع الله لمن دعا ، ليس وراء الله مرمى ، حسبي الله لا
إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم
.
ومن جرب هذه
الدعوات والعوذ ، عرف مقدار منفعتها ، وشدة الحاجة إليها ، وهي تمنع وصول أثر
العائن ، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه ، واستعداده ، وقوة
توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه
.
فصل
وإذا كان العائن
يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين ، فليدفع شرها بقوله : اللهم بارك عليه ، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف : " ألا بركت "
أي : قلت : اللهم بارك عليه .
ومما يدفع به إصابة
العين قول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه كان
إذا رأى شيئاً يعجبه ، أو دخل حائطاً من حيطانه قال : ما شاء الله ، لا قوة إلا
بالله .
ومنها رقية جبريل
عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه "
باسم الله أرقيك ، من كل شئ يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ، باسم
الله أرقيك " .
ورأى جماعة من
السلف أن تكتب له الآيات من القرآن ، ثم يشربها . قال
مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ، ويغسله ، ويسقيه المريض ، ومثله عن أبي قلابة . ويذكر
عن ابن عباس : أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن ، ثم يغسل
وتسقى . وقال أيوب : رأيت أبا قلابة كتب كتاباً من القرآن ، ثم غسله بماء ، وسقاه
رجلاً كان به وجع .
فصل
ومنها : أن يؤمر
العائن بغسل مغابنه وأطرافه وداخلة إزاره ، وفيه قولان . أحدهما : أنه فرجه . والثاني
: أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن ، ثم يصب على رأس المعين
من خلفه بغتة ، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء ، ولا ينتفع به من أنكره ، أو سخر
منه ، أو شك فيه ، أو فعله مجرباً لا يعتقد أن ذلك ينفعه
.
وإذا كان في
الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة ، بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة
تفعل بالخاصية ، فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية ، هذا مع أن
في المعالجة بهذا الإستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة ، وتقر لمناسبته ، فاعلم أن
ترياق سم الحية في لحمها ، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها ، وإطفاء
ناره بوضع يدك عليه ، والمسح عليه ، وتسكين غضبه ، وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من
نار ، وقد أراد أن يقذفك بها ، فصببت عليها الماء ، وهي في يده حتى طفئت ، ولذلك
أمر العائن أن يقول : اللهم بارك
عليه ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء
الذي هو إحسان إلى المعين ، فإن دواء الشئ بضده . ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر
في المواضع الرقيقة من الجسد ، لأنها تطلب النفوذ ، فلا تجد أرق من المغابن ،
وداخلة الإزار ، ولا سيما إن كان كناية عن الفرج ، فإذا غسلت بالماء ، بطل تأثيرها
وعملها ، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص .
والمقصود : أن
غسلها بالماء يطفئ تلك النارية ، ويذهب بتلك السمية
.
وفيه أمر آخر ، وهو
وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها تنفيذاً ، فيطفئ تلك النارية
والسمية بالماء ، فيشفى المعين ، وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها ، خف
أثر اللسعة عن الملسوع ، ووجد راحة ، فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها ، وتوصله إلى
الملسوع . فإذا قتلت ، خف الألم ، وهذا مشاهد . وإن كان من أسبابه فرح الملسوع ،
واشتفاء نفسه بقتل عدوه ، فتقوى الطبيعة على الألم ، فتدفعه .
وبالجملة : غسل
العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه ، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك
الكيفية .
فإن قيل : فقد ظهرت مناسبة الغسل ، فما مناسبة صب ذلك الماء على
المعين ؟ قيل : هو في غاية المناسبة ، فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية ،
وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل ، فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل طفئت
به ، وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن ، والماء الذي يطفأ به
الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء ، فهذا الذي طفئ به
نارية العائن ، لا
يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء . وبالجملة : فطب الطبائعية وعلاجهم
بالنسبة إلى العلاج النبوي ، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم ، بل أقل ، فإن التفاوت
الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم ، وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا
يدرك الإنسان مقدراه ، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع ، وعدم
مناقضة أحدهما للآخر ، والله يهدي من يشاء إلى الصواب ، ويفتح لمن أدام قرع باب
التوفيق منه كل باب ، وله النعمة السابغة ، والحجة البالغة .
فصل
ومن علاج ذلك أيضاً
والإحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه ، كما ذكر البغوي في
كتاب شرح السنة : أن عثمان رضي الله عنه رأى صبياً مليحاً ،
فقال : دسموا نونته ، لئلا تصيبه العين ، ثم قال في تفسيره : ومعنى : دسموا
نونته : أي : سودوا
نونته ، والنونة : النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير
.
وقال الخطابي
في غريب الحديث له عن عثمان : إنه رأى صبياً تأخذه العين ،
فقال : دسموا نونته . فقال أبو عمرو : سألت أحمد بن يحيى عنه ، فقال : أراد
بالنونة : النقرة التي في ذقنه . والتدسيم : التسويد . أراد
: سودوا ذلك الموضع من ذقنه ، ليرد العين . قال : ومن
هذا حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم ، وعلى رأسه عمامة
دسماء . أي : سوداء . أراد الإستشهاد على
اللفظة ، ومن هذا أخذ الشاعر قوله
:
ما كان أحوج ذا
الكمال إلى
عيـــب يـوقيــه مـن العين
فصل
ومن الرقى التي ترد
العين ما ذكر عن أبي عبد الله الساجي ، أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على
ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن ، قلما نظر إلى شئ إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبد
الله : إحفظ ناقتك من العائن ، فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل ، فأخبر العائن بقوله
، فتحين غيبة أبي عبد الله ، فجاء إلى رحله ، فنظر إلى الناقة ، فاضطربت وسقطت ،
فجاء أبو عبد الله ، فأخبر أن العائن قد عانها ، وهي كما ترى ، فقال : دلوني عليه
، فدل ، فوقف عليه ، وقال : بسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس ، وشهاب قابس ، رددت
عين العائن عليه ، وعلى أحب الناس إليه ، " فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم
ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " [ الملك : 3 ، 4 ] فخرجت
حدقتا العائن ، وقامت الناقة لا بأس بها
.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج
العام لكل شكوى بالرقية الإلهية
روى أبو داود
في سننه
من حديث أبي الدرداء ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" من اشتكى منكم شيئاً ، أو اشتكاه أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء ،
تقدس اسمك ، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء ، فاجعل رحمتك في الأرض ،
واغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين ، أنزل رحمة من رحمتك ، وشفاء من شفائك
على هذا الوجع ، فيبرأ بإذن الله
" .
وفي صحيح مسلم
عن أبي سعيد الخدري ، " أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : يا محمد ! أشتكيت ؟ فقال :
نعم ، فقال جبريل - عليه السلام -
: باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر
كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك
" .
فإن قيل : فما
تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود : " لا رقية إلا من عين ، أو حمة ، . .
" والحمة : ذوات السموم كلها
.
فالجواب أنه صلى
الله عليه وسلم لم يرد به نفي جواز الرقية في غيرها ، بل المراد به : لا رقية أولى
وأنفع منها في العين والحمة ، ويدل عليه سياق الحديث ، فإن سهل بن حنيف قال له لما
أصابته العين : أوفي الرقى خير ؟ فقال : " لا رقية إلا في نقس أو حمة " ويدل
عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة ، وقد روى أبو داود من حديث أنس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ " .
وفي صحيح مسلم
عنه أيضاً : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة
والنملة .
فصل
في هديه صلى الله
عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : انطلق نفر من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب
، فاستضافوهم ، فأبوا أن يضيفوهم ، فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شئ لا ينفعه
شئ ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ ،
فأتوهم ، فقالوا : يا أيها الرهط ! إن
سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شئ لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم من شئ ؟ فقال بعضهم : نعم
والله إني لأرقي ، ولكن استضفناكم ، فلم تضيفونا ، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا
جعلاً ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ : الحمد لله رب
العالمين ، فكأنما أنشط من عقال ، فانطلق يمشي وما به قلبة ، قال : فأوفوهم جعلهم
الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له ذلك ، فقال : " وما يدريك أنها
رقية ؟ ، ثم قال : قد أصبتم ، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " .
وقد روى ابن ماجه
في سننه
من حديث علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الدواء
القرآن " .
ومن المعلوم أن بعض
الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين ، الذي فضله على كل
كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي
، والرحمة العامة ، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنين " [ الإسراء : 82 ] ، و
من ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض
، هذا أصح القولين ، كقوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
منهم مغفرة وأجرا عظيما " [ الفتح : 129 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا
في الإنجيل ، ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله ، المشتملة على
ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها ، وهي الله ، والرب ، والرحمن ، وإثبات
المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الإفتقار إلى
الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل
الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شئ إليه ، وهو الهداية إلى
صراطه المستقيم ، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته - بفعل ما أمر به ، واجتناب
ما نهى عنه ، والإستقامة عليه إلى الممات ، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم
إلى منعم عليه بمعرفة الحق ، والعمل به ، ومحبته ، وإيثاره ، ومغضوب عليه بعدوله
عن الحق بعد معرفته له ، وضال بعدم معرفته له . وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها
لإثبات القدر ، والشرع، والأسماء، والصفات ، والمعاد ، والنبوات ، وتزكية النفوس ،
وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل ، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير مدارج السالكين في شرحها . وحقيق بسورة هذا بعض شأنها ، أن
يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ
.
وبالجملة فما
تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله ، وتفويض الأمر كله إليه ،
والإستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهي الهداية التي تجلب
النعم ، وتدفع النقم ، من أعظم الأدوية الشافية الكافية
.
وقد قيل : إن موضع
الرقية منها : " إياك نعبد وإياك نستعين " ، ولا ريب أن هاتين الكلمتين
من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل ، والإلتجاء
والإستعانة ، والإفتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهي عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل وهي الإستعانة به على
عبادته ما ليس في غيرها ، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ،
فكنت أتعالج بها ، آخذ شربة من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مراراً ، ثم أشربه ،
فوجدت بذلك البرء التام ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ، فأنتفع بها غاية
الإنتفاع .
فصل
وفي تأثير الرقى
بالفاتحة وغيرها في علاج ذوات السموم سر بديع ، فإن ذوات السموم أثرت بكيفيات
نفوسها الخبيثة ، كما تقدم ، وسلاحها
حماتها التي تلدغ بها ، وهي لا تلدغ حتى تغضب ، فإذا غضبت ، ثار فيها السم ،
فتقذفه بآلتها ، وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ، ولكل شئ ضداً ، ونفس الراقي
تفعل في نفس المرقي ، فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال ، كما يقع بين الداء ، والدواء
، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء ، فيدفعه بإذن الله ، ومدار تأثير
الأدوية والأدواء على الفعل والإنفعال ، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين
، يقع بين الداء والدواء الروحانيين ، والروحاني ، والطبيعي ، وفي النفث والتفل
استعانة بتلك الرطوبة والهواء ، والنفس المباشر للرقية ، والذكر والدعاء ، فإن
الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه ، فإذا صاحبها شئ من أجزاء باطنه من الريق والهواء
والنفس ، كانت أتم تأثيراً ، وأقوى فعلاً ونفوذاً ، ويحصل بالإزدواج بينهما كيفية
موثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية
.
وبالجملة
: فنفس
الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة ، وتزيد بكيفية نفسه
.
وتستعين بالرقية
وبالنفث على إزالة ذلك الأثر ، وكلما كانت كيفية نفس
الراقي أقوى ، كانت الرقية أتم ، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة
بلسعها .
وفي النفث سر آخر ، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة ، ولهذا
تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان . قال تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " ، وذلك
لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة ، وترسل أنفاسها سهاماً لها ، وتمدها
بالنفث والتفل الذي معه شئ من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة ، والسواحر تستعين بالنفث
استعانة بينة ، وإن لم تتصل بجسم المسحور ،
بل تنفث على العقدة
وتعقدها ، وتتكلم بالسحر ، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة ،
فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية ، وتستعين بالنفث ،
فأيهما قوي كان الحكم له ، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض ، ومحاربتها وآلتها من جنس
مقابلة الأجسام ، ومحاربتها وآلتها سواء ، بل الأصل في المحاربة والتقابل للأرواح
والأجسام آلتها وجندها ، ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها
وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه ، وبعده من عالم الأرواح ، وأحكامها ،
وأفعالها .
والمقصود : أن
الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة ، واستعانت بالنفث والتفل ، قابلت ذلك
الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة ،
فأزالته والله أعلم .
فصل
في هديه صلى الله
عليه وسلم في علاج لدغة العقرب بالرقية
روى ابن أبي شيبة
في مسنده
، من حديث عبد الله بن مسعود قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
، إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
" لعن الله العقرب ما تدع نبياً ولا غيره " ، قال : ثم دعا بإناء فيه
ماء وملح ، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ، ويقرأ " قل هو الله أحد "
، والمعوذتين حتى سكنت .
ففي هذا الحديث
العلاج بالدواء المركب من الأمرين : الطبيعي والإلهي ، فإن في سورة الإخلاص من
كمال التوحيد العلمي الإعتقادي ، وإثبات الأحدية لله ، المستلزمة نفي كل شركة عنه
، وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في
حوائجها ، أي : تقصده الخليقة ، وتتوجه إليه ، علويها وسفليها ، ونفي الوالد
والولد ، والكفء عنه المتضمن لنفي
الأصل
،
والفرع والنظير ، والمماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث القرآن ، ففي اسمه الصمد
إثبات كل الكمال ، وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال . وفي الأحد نفي كل
شريك لذي الجلال ، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد .
وفي المعوذتين
الإستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلاً ، فإن الإستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر
يستعاذ منه ، سواء كان في الأجسام أو الأرواح ، والإستعاذة من شر الغاسق وهو الليل
، وآيته وهو القمر إذا غاب ، تتضمن الإستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح
الخبيثة التي كان نور النهار يحول بينها وبين الإنتشار ، فلما أظلم الليل عليها
وغاب القمر ، انتشرت وعاثت .
والإستعاذة من شر
النفاثات في العقد تتضمن الإستعاذة من شر السواحر وسحرهن
.
والإستعاذة من شر
الحاسد تتضمن الإستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها .
والسورة الثانية : تتضمن
الإستعاذة من شر شياطين الإنس والجن ، فقد جمعت السورتان الإستعاذة من كل شر ،
ولهما شأن عظيم في الإحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر بقراءتهما عقب
كل صلاة ، ذكره الترمذي في جامعه وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة
إلى الصلاة . وقال : ما تعوذ المتعوذون بمثلهما . وقد
ذكر أنه صلى الله عليه وسلم سحر في إحدى عشرة عقدة ، وأن
جبريل نزل عليه بهما ، فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها
، وكأنما أنشط من عقال .
وأما العلاج
الطبيعي فيه ، فإن في الملح نفعاً لكثير من السموم ، ولا سيما لدغة العقرب ، قال
صاحب القانون : يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب ، وذكره
غيره أيضاً . وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها ، ولما
كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج جمع بين الماء المبرد لنار
اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج ، وهذا أتم ما يكون من العلاج وأيسره وأسهله
، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج والله أعلم .
وقد روى مسلم
في صحيحه
عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال : " أما
لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم تضرك " .
واعلم أن الأدوية
الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله ، وتمنع من وقوعه ، وإن وقع لم يقع
وقوعاً مضراً ، وإن كان مؤذياً ، والأدوية الطبيعية إنما تنفع ، بعد حصول الداء ،
فالتعوذات والأذكار ، إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب ، وإما أن تحول بينها وبين
كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه ، فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ،
ولازالة المرض ، أما الأول : فكما في
الصحيحين من حديث عائشة كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه " قل هو الله أحد "
والمعوذتين . ثم يمسح بهما وجهه ، وما بلغت يده من جسده
.
وكما في حديث عوذة
أبي الدرداء المرفوع " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب
العرش العظيم " ، وقد تقدم وفيه : من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي
، ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح
.
وكما في الصحيحين : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في
ليلة كفتاه " .
وكما في صحيح مسلم
عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات
الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك " .
وكما في سنن أبي داود
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في السفر يقول بالليل : " يا أرض
، ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله
من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ومن والد وما ولد " .
وأما الثاني : فكما تقدم من الرقية بالفاتحة ، والرقية للعقرب
وغيرها مما يأتي .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية
النملة
قد تقدم من حديث
أنس الذي في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة
والعين والنملة .
وفي سنن أبي داود
عن الشفاء بنت عبد الله ، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند
حفصة ، فقال : " ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة " .
النملة : قروح تخرج
في الجنين ، وهو داء معروف ، وسمي نملة ، لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب
عليه وتعضه ، وأصنافها ثلاثة ، قال ابن قتيبة وغيره : كان المجوس يزعمون أن ولد
الرجل من أخته إذا خط على النملة ، شفى صاحبها ، ومنه قول الشاعر :
ولاعيب فينا غير
عرف لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل
وروى الخلال : أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي في الجاهلية من
النملة ، فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة ، قالت : يا
رسول الله ! إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة ، وإني
أريد أن أعرضها عليك ، فعرضت عليه
فقالت
: بسم
الله ضلت حتى تعود من أفواهها ، ولا تضر أحداً ، اللهم اكشف البأس رب الناس ، قال :
ترقي بها على عود سبع مرات ، وتقصد مكاناً نظيفاً ، وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق ،
وتطليه على النملة . وفي الحديث : دليل على جواز تعليم
النساء الكتابة .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية
الحية
قد تقدم قوله :
" لا رقية إلا في عين ، أو حمة " ، الحمة : بضم
الحاء وفتح الميم وتخفيفها . وفي سنن ابن
ماجه من حديث عائشة : رخص رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الرقية من الحية والعقرب . ويذكر عن ابن شهاب الزهري قال : لدغ
بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" هل من راق ؟ فقالوا
: يا رسول الله ! إن آل حزم كانوا يرقون رقية الحية ، فلما نهيت عن الرقى
تركوها ، فقال : ادعو عمارة بن حزم ، فدعوه ، فعرض عليه رقاه ، فقال : لا بأس بها
فأذن له فيها فرقاه "
.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية
القرحة والجرح
أخرجا في الصحيحين
عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى الإنسان أو
كانت به قرحة أو جرح ، قال بأصبعه : هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ، ثم رفعها ،
وقال : " بسم الله ، تربة أرضنا بريقة بعضنا ، يشفى سقيمنا بإذن ربنا " .
هذا من العلاج
الميسر النافع المركب ، وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية ، لا
سيما عند عدم غيرها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض ، وقد علم أن طبيعة التراب
الخالص بادرة يابسة مجففة لرطوبات القروح والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة
فعلها ، وسرعة اندمالها ، لا سيما في البلاد الحارة ، وأصحاب الأمزجة الحارة ، فإن
القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوء مزاج حار ، فيجتمع حرارة البلد والمزاج
والجراح ، وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة
، فتقابل برودة التراب حرارة المرض ، لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف ، ويتبعها
أيضاً كثرة الرطوبات الرديئة ، والسيلان ، والتراب مجفف لها ، مزيل لشدة يبسه
وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها ، ويحصل به - مع ذلك - تعديل مزاج العضو
العليل ، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة ، ودفعت عنه الألم بإذن الله .
ومعنى الحديث : أنه
يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ، ثم يضعها على التراب ، فيعلق بها منه شئ ،
فيمسح به على الجرح ، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله ، وتفويض
الأمر إليه ، والتوكل عليه ، فينضم أحد العلاجين إلى الآخر ، فيقوى التأثير .
وهل المراد بقوله : تربة
أرضنا جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة ؟
فيه قولان ، ولا ريب أن من التربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواء كثيرة
، ويشفي به أسقاماً رديئة . قال جالينوس : رأيت بالإسكندرية مطحولين ، ومستسقين ،
كثيراً يستعملون طين مصر ، ويطلون به على سوقهم ، وأفخاذهم ، وسواعدهم ، وظهورهم ،
وأضلاعهم ، فينتفعون به منفعة بينة . قال : وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء
للأورام العفنة والمترهلة الرخوة ، قال : وإني لأعرف قوماً ترهلت أبدانهم كلها من
كثرة استفراغ الدم من أسفل ، انتفعوا بهذا الطين نفعاً بيناً ، وقوماً آخرين شفوا
به أوجاعاً مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكناً شديداً ، فبرأت وذهبت أصلاً .
وقال صاحب الكتاب المسيحي : قوة الطين المجلوب من كنوس - وهي جزيرة المصطكى - قوة
تجلو وتغسل ، وتنبت اللحم في القروح ، وتختم القروح . انتهى .
وإذا كان هذا في
هذه التربات ، فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها ، وقد خالطت ريق رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وقارنت رقيته باسم ربه ، وتفويض الأمر إليه ، وقد تقدم
أن قوى الرقية وتأثيرها بحسب الراقي ، وانفعال المرقي عن رقيته ، وهذا أمر لا
ينكره طبيب فاضل عاقل مسلم ، فإن انتفى أحد الأوصاف ، فليقل ما شاء .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
الوجع بالرقية
روى مسلم في صحيحه
عن عثمان بن أبي العاص ، أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً
يجده في جسده منذ أسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ضع يدك على الذي
تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثاً ، وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر
ما أجد وأحاذر " ففي هذا العلاج من ذكر الله ، والتفويض إليه ، والإستعاذة
بعزته وقدرته من شر الألم ما يذهب به ، وتكراره ليكون أنجع وأبلغ ، كتكرار الدواء
لأخراج المادة ، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها ، وفي الصحيحين
: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يعوذ بعض أهله ، يمسح بيده اليمنى ،
ويقول : " اللهم رب الناس ، أذهب الباس ، واشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا
شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً " . ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته
، وكمال رحمته بالشفاء ، وأنه وحده الشافى ، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه ، فتضمنت
التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته
.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
حر المصيبة وحزنها
قال تعالى : " وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا
إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "
[ البقرة : 155 ] . وفي
المسند عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال : " ما من أحد تصيبه مصيبة
فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً
منها ، إلا أجاره الله في مصيبته ، وأخلف له خيراً منها
" .
وهذه الكلمة من
أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا
تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته
.
أحدهما : أن العبد
وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة ، وقد جعله عند العبد عارية ، فإذا أخذه منه ،
فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير ، وأيضاً فإنه محفوف بعدمين : عدم قبله ، وعدم
بعده ، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير ، وأيضاً فإنه ليس الذي أوجده عن
عدمه ، حتى يكون ملكه حقيقة ، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ، ولا يبقي
عليه وجوده ، فليس له فيه تأثير ، ولا ملك حقيقي ، وأيضاً فإنه متصرف فيه بالأمر
تصرف العبد المأمور المنهي ، لا تصرف الملاك ، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه
إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي .
والثاني : أن مصير
العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجيء ربه
فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات ،
فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسى على
مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء ، ومن علاجه أن يعلم علم
اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . قال تعالى : "
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على
الله يسير * لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل
مختال فخور " [ الحديد : 22
] .
ومن علاجه أن ينظر
إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله ، أو أفضل منه ، وادخر له - إن صبر
ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم
مما هي .
ومن علاجه أن يطفئ
نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ، ولينظر
يمنة ، فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة ؟ ، وأنه لو فتش
العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، وأن شرور الدنيا
أحلام نوم أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلاً ، أبكت كثيراً ، وإن سرت يوماً ، ساءت
دهراً ، وإن متعت قليلاً ، منعت طويلاً ، وما ملأت داراً خيرة إلا ملأتها عبرة ،
ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور ، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لكل
فرحة ترحة ، وما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً . وقال ابن سيرين :
ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء
.
وقالت هند بنت
النعمان : لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكاً ، ثم لم تغب الشمس حتى
رأيتنا ونحن أقل الناس ، وأنه حق على الله ألا يملأ داراً خيرة إلا ملأها عبرة .
وسألها رجل أن تحدثه
عن أمرها ، فقالت : أصبحنا ذا صباح ، وما في العرب أحد
إلا يرجونا ، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا
.
وبكت
أختها
حرقة بنت النعمان يوماً ، وهي في عزها ، فقيل لها : ما يبكيك ، لعل أحداً آذاك ؟
قالت : لا ، ولكن رأيت غضارة في أهلي ، وقلما امتلأت دار سروراً إلا امتلأت حزناً .
قال إسحاق بن طلحة :
دخلت عليها يوماً ، فقلت لها : كيف رأيت عبرات الملوك ؟ فقالت : ما نحن فيه اليوم
خير مما كنا فيه الأمس ، إنا نجد في الكتب
أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة إلا سيعقبون بعدها عبرة ، وأن الدهر لم يظهر
لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه ، ثم قالت
:
فبينا نسوس الناس
والأمر أمرنا إذا نحـن فيهم سوقة
نتنصف
فـــأف لدنيـــا لا
يـدوم نـعـيـمهـا تقلب تـارات
بنـــا وتصـــرف
ومن علاجها أن يعلم
أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها ، وهو في الحقيقة من
تزايد المرض .
ومن علاجها أن يعلم
أن فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على
الصبر ، والإسترجاع أعظم من المصيبة في الحقيقة
.
ومن علاجها أن يعلم
أن الجزع يشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف
نفسه ، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ، ورده خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء
عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزاهم هو قبل أن يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم
، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور .
ومن علاجها : أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والإحتساب من اللذة والمسرة
أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ، ويكفيه من ذلك بيت الحمد
الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظر : أي المصيبتين أعظم ؟ : مصيبة
العاجلة ، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد . وفي الترمذي مرفوعاً : " يود
ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل
البلاء " .
وقال بعض السلف : لو
لا مصائب الدنيا لوردنا القيام مفاليس
.
ومن علاجها : أن
يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله ، فإنه من كل شئ عوض إلا الله ، فما منه عوض
كما قيل :
من كل شئ إذا ضيعته
عوض وما من الله إن ضيعته عوض
ومن علاجها : أن
يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه له ، فمن رضي ، فله الرضى ، ومن سخط ، فله السخط
، فحظك منها ما أحدثته لك ، فاختر خير الحظوظ أو شرها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً
، كتب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب ، أو فعل محرم
، كتب في ديوان المفرطين ، وإن أحدثت له شكاية ، وعدم صبر ، كتب في ديوان
المغبونين ، وإن أحدثت له اعتراضاً على الله ، وقدحاً في حكمته ، فقد قرع باب
الزندقة أو ولجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كتب في ديوان الصابرين ، وإن
أحدثت له الرضى عن الله ، كتب في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمد والشكر ، كتب
في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين ، وإن أحدثت له محبة
واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كتب في ديوان المحبين المخلصين
.
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي ، من حديث محمود بن لبيد يرفعه :
" إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط "
. زاد أحمد : " ومن جزع فله الجزع
" .
ومن علاجها : أن
يعلم أنه وإن بلغ في الجزع غايته ، فآخر أمره إلى صبر الإضطرار ، وهو غير محمود ولا
مثاب ، قال بعض الحكماء : العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد
أيام ، ومن لم يصبر صبر الكرام ، سلا سلو البهائم . وفي الصحيح
مرفوعاً : " الصبر عند الصدمة الأولى " . وقال الأشعث بن قيس : إنك
إن صبرت إيماناً واحتساباً ، وإلا سلوت سلو البهائم
.
ومن علاجها : أن
يعلم أن أنفع الأدوية له موافقة ربه وإلهه فيما أحبه ورضيه له ، وأن خاصية المحبة
وسرها موافقة المحبوب ، فمن ادعى محبة محبوب ، ثم سخط ما يحبه ، وأحب ما يسخطه ،
فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتمقت إلى محبوبه
.
وقال أبو الدرداء :
أن الله إذا قضى قضاء ، أحب أن يرضى به ، وكان عمران بن حصين يقول في علته : أحبه
إلي أحبه إليه ، وكذلك قال أبو العالية
.
وهذا دواء وعلاج لا
يعمل إلا مع المحبين ، ولا يمكن كل أحد أن يتعالج به
.
ومن علاجها : أن
يوازن بين أعظم اللذتين والمتعتين ، وأدومهما : لذة تمتعه بما أصيب به ، ولذة
تمتعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجح ، فليحمد الله على توفيقه
، وإن آثر المرجوح من كل وجه ، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه أعظم من
مصيبته التي أصيب بها في دنياه .
ومن علاجها أن يعلم
أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبحانه لم يرسل إليه
البلاء ليهلكه به ، ولا ليعذبه به ، ولا ليجتاحه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره
ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرعه وابتهاله ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه
، مكسور القلب بين يديه ، رافعاً قصص الشكوى إليه
.
قال الشيخ عبد
القادر : يا بني ! إن المصيبة ما جاءت لتهلكك ، وإنما
جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك ، يا بني ! القدر سبع ، والسبع
لا يأكل الميتة .
والمقصود : أن
المصيبة كير العبد الذي يسبك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهباً أحمر ، وإما أن يخرج
خبثاً كله ، كما قيل :
سبكناه ونحسبه
لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإن لم ينفعه هذا
الكير في الدنيا ، فبين يديه الكير الأعظم ، فإذا علم العبد أن إدخاله كير الدنيا
ومسبكها خير له من ذلك الكير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكيرين ، فليعلم قدر
نعمة الله عليه في الكير العاجل .
ومن علاجها : أن
يعلم أنه لو لا محن الدنيا ومصائبها ، لأصاب العبد - من أدواء الكبر والعجب
والفرعنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمة أرحم الراحمين
أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حمية له من هذه الأدواء ،
وحفظاً لصحة عبوديته ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحان من
يرحم ببلائه ، ويبتلي بنعمائه كما قيل
:
قد ينعم بالبلوى وإن عظمت ويبتلي
الله بعض القوم بالنعم
فلو لا أنه - سبحانه
- يداوي عباده بأدوية المحن والإبتلاء ، لطغوا ، وبغوا ، وعتوا ، والله - سبحانه -
إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الإبتلاء والإمتحان على قدر حاله يستفرغ به من
الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه ، أهله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي
عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيته وقربه
.
ومن علاجها : أن
يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة ، يقلبها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة
الدنيا بعينها مرارة الآخرة ، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له
من عكس ذلك ، فإن خفي عليك هذا ، فانظر إلى قول الصادق المصدوق : " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " .
وفي هذا المقام
تفاوتت عقول الخلائق ، وظهرت حقائق الرجال ، فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على
الحلاوة الدائمة التي لا تزول ، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد ، ولا ذل ساعة
لعز الأبد ، ولا محنة ساعة لعافية الأبد ، فإن الحاضر عنده شهادة ، والمنتظر غيب ،
والإيمان ضعيف ، وسلطان الشهوة حاكم ، فتولد من ذلك إيثار العاجلة ، ورفض الآخرة ،
وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب
الذي يخرق حجب العاجلة ، ويجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأن آخر .
فادع نفسك إلى ما
أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز
الأكبر ، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم
اختر أي القسمين أليق بك ، وكل يعمل على شاكلته ، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه ،
وما هو الأولى به ، ولا تستطل هذا العلاج ، فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل
دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
الكرب والهم والغم والحزن
أخرجا في الصحيحين
من حديث ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب :
" لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله
إلا الله رب السماوات السبع ، ورب الأرض رب العرش الكريم
" .
وفي جامع الترمذي
عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا حزبه أمر ، قال :
" يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث
" .
وفيه
: عن
أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمه الأمر ، رفع طرفه إلى
السماء فقال : " سبحان الله العظيم " ، وإذا اجتهد في الدعاء قال :
" يا حي يا قيوم "
.
وفي سنن أبي داود
عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دعوات المكروب
: اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله
إلا أنت " .
وفيها أيضاً عن
أسماء بنت عميس قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أعلمك
كلمات تقوليهن عند الكرب ، أو في الكرب : الله ربى لا أشرك به شيئاً " . وفي
رواية أنها تقال سبع مرات .
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : " ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن
أمتك ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به
نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب
عندك : أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا
أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدله مكانه فرحاً
" .
وفي الترمذي عن سعد
بن أبي وقاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوة ذي النون إذ
دعا ربه وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، لم يدع
بها رجل مسلم في شئ قط إلا استجيب له
" .
وفي رواية " إني
لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه : كلمة أخي
يونس " .
وفي سنن أبي داود
عن أبي سعيد الخدري ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة ، فقال : " يا أبا
أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة ؟
فقال : هموم لزمتني ، وديون يا رسول الله ، فقال : ألا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز
وجل همك وقضى دينك ؟ قال : قلت : بلى يا
رسول الله ، قال : قل إذا أصبحت وإذا
أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك
من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " ، قال : ففعلت ذلك ،
فأذهب الله عز وجل همى ، وقضى عني ديني
.
وفي سنن أبي داود
عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لزم
الإستغفار ، جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا
يحتسب " .
وفي المسند أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر ، فزع إلى الصلاة ، وقد قال تعالى :
" واستعينوا بالصبر والصلاة " [ البقرة : 45
] .
وفي السنن :
"عليكم بالجهاد ، فإنه باب من أبواب الجنة ، يدفع الله به عن النفوس الهم
والغم " .
ويذكر عن ابن عباس
، عن النبي صلى الله علي وسلم : " من كثرت همومه وغمومه ، فليكثر من قول : لا
حول ولا قوة إلا بالله
".
وثبت في الصحيحين
"أنها كنز من كنوز الجنة"
.
وفي الترمذي :
" أنها باب من أبواب الجنة "
.
هذه الأدوية تتضمن
خمسة عشر نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن ، فهو داء
قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كلي
.
الأول : توحيد الربوبية .
الثاني
: توحيد
الإلهية .
الثالث : التوحيد
العلمى الإعتقادي .
الرابع
: تنزيه
الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .
الخامس
: اعتراف
العبد بأنه هو الظالم .
السادس
: التوسل
إلى الرب تعالى بأحب الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني الأسماء
والصفات : الحي القيوم .
السابع : الإستعانة
به وحده .
الثامن
: إقرار
العبد له بالرجاء .
التاسع : تحقيق
التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والإعتراف له بأن ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ،
وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه
.
العاشر : أن يرتع
قلبه في رياض القرآن ، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يستضيء به في ظلمات
الشبهات واللهوات ، وأن يتسلى به عن كل فائت ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفي به
من أدواء صدره ، فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه
.
الحادي عشر : الإستغفار .
الثاني عشر : التوبة
.
الثالث عشر : الجهاد
.
الرابع عشر : الصلاة
.
الخامس عشر : البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده .
فصل
في بيان جهة تأثير
هذه الأدوية في هذه الأمراض
خلق الله - سبحانه -
ابن آدم وأعضاءه ، وجعل لكل عضو منها كمالاً إذا فقده أحس بالألم ، وجعل لملكها
وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان .
فإذا فقدت العين ما
خلقت له من قوة الإبصار ، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة
السمع ، واللسان ما خلق له من قوة الكلام ، فقدت كمالها
.
والقلب : خلق
لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والإبتهاج بحبه ، والرضى عنه ، والتوكل
عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ،
وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه ، وارجي عنده من كل ما سواه ، وأجل في قلبه من كل
ما سواه ، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة
الغذاء والصحة والحياة ، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته ، فالهموم والغموم والأحزان
مسارعة من كل صوب إليه ، ورهن مقيم عليه
.
ومن أعظم أدوائه : الشرك
والذنوب والغفلة والإستهانة بمحابه ومراضيه ، وترك التفويض إليه ، وقلة الإعتماد
عليه ، والركون إلى ما سواه ، والسخط بمقدوره ، والشك في وعده ووعيده .
وإذا تأملت أمراض
القلب ، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها لا سبب لها سواها ، فدواؤه الذي لا
دواء له سواه ما تضمنته هذه العلاجات النبوية من الأمور المضادة لهذه الأدواء ،
فإن المرض يزال بالضد ، والصحة تحفظ بالمثل ، فصحته تحفظ بهذه الأمور النبوية ،
وأمراضه بأضدادها .
فالتوحيد : يفتح
للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والإبتهاج ، والتوبة استفراغ للأخلاط
والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه ، وحمية له من التخليط ، فهي تغلق عنه باب
الشرور ، فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ، ويغلق باب الشرور بالتوبة والإستغفار .
قال بعض المتقدمين
من أئمة الطب : من أراد عافية الجسم ، فليقلل من الطعام
والشراب ، ومن أراد عافية القلب ، فليترك الآثام . وقال ثابت بن قرة : راحة الجسم في قلة الطعام ، وراحة الروح في قلة الآثام ،
وراحة اللسان في قلة الكلام .
والذنوب للقلب ، بمنزلة السموم ، إن لم تهلكه أضعفته ، ولا بد ، وإذا
ضعفت قوته ، لم يقدر على مقاومة الأمراض ، قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك .
رأيت الذنوب تميت
القلوب وقد يورث
الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة
القلوب وخيــر لنفسك عصيانها
فالهوى أكبر
أدوائها ، ومخالفته أعظم أدويتها ، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة ، فهي لجهلها
تظن شفاءها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفها وعطبها ، ولظلمها لا تقبل من الطبيب
الناصح ، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده ، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه ،
فيتولد من بين إيثارها للداء ، واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي
تعيي الأطباء ، ويتعذر معها الشفاء . والمصيبة العظمى ، أنها تركب ذلك على القدر ،
فتبرئ نفسها ، وتلوم ربها بلسان الحال دائماً ، ويقوى اللوم حتى يصرح به اللسان .
وإذا وصل العليل
إلى هذه الحال ، فلا يطمع في برئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه ، فيحييه حياة جديدة
، ويرزقه طريقة حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس في دعاء الكرب مشتملاً على توحيد
الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان مستلزمتان
لكمال القدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفه بكمال ربوبيته للعالم العلوي
والسفلي ، والعرش الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها ، والربوبية التامة تستلزم توحيده
، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمته
المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له ، وسلب كل نقص وتمثيل
عنه . وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه
.
فعلم القلب ومعرفته
بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده ، فيحصل له من الإبتهاج واللذة والسرور ما يدفع
عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ، ويقوي
نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي ، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .
ثم إذا قابلت بين
ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب ،
وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور
، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها ، وباشر قلبه حقائقها .
وفي تأثير قوله : يا حي يا قيوم ، برحمتك أستغيث في دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإن صفة
الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات
الأفعال ، ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : هو
اسم الحي القيوم ، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام ، ولهذا لما كملت
حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شئ من الآفات . ونقصان الحياة تضر
بالأفعال ، وتنافي القيومة ، فكمال القيومية لكمال الحياة ، فالحي المطلق التام
الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة ، والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة ،
فالتوسل بصفة الحياة القيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ، ويضر بالأفعال .
ونظير هذا توسل
النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما
اختلف فيه من الحق بإذنه، فإن حياة القلب بالهداية ، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء
الأملاك الثلاثة بالحياة ، فجبريل موكل بالوحي الذي هو حياة القلوب ، وميكائيل
بالقطر الذي هو حياة الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب
حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها ، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح
العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب
.
والمقصود : أن لاسم
الحي القيوم تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات ، وكشف الكربات ، وفي السنن
و صحيح أبي حاتم مرفوعاً : " اسم الله الأعظم في هاتين
الآيتين " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " [ البقرة : 163
] ، وفاتحة آل عمران " الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم " " ،
قال الترمذي : حديث صحيح .
وفي السنن
و صحيح ابن حبان أيضاً : من حديث أنس أن رجلاً دعا ، فقال : اللهم
إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنان ، بديع السماوات والأرض ، يا ذا
الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد
دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى " .
ولهذا كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء قال : " يا
حي يا قيوم " .
وفي قوله : " اللهم
رحمتك أرجو ، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت "
من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيديه والإعتماد عليه وحده ، وتفويض الأمر إليه ،
والتضرع إليه ، أن يتولى إصلاح شأنه ، ولا يكله إلى نفسه ، والتوسل إليه بتوحيده
مما له تأثير قوي في دفع هذا الداء ، وكذلك قوله : " الله ربي لا أشرك به
شيئاً " .
وأما حديث ابن
مسعود : " اللهم إني عبدك ابن عبدك " ، ففيه من المعارف الإلهية ،
وأسرار العبودية ما لا يتسع له كتاب ، فإنه يتضمن الإعتراف بعبوديته وعبودية آبائه
وأمهاته ، وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء ، فلا يملك العبد دونه لنفسه نفعاً ولا
ضراً، ولا موتاً ولا حياة ، ولا نشوراً ، لأن من ناصيته بيد غيره ، فليس إليه شئ
من أمره ، بل هو عان في قبضته ، ذليل تحت سلطان قهره
.
وقوله
:
" ماض في حكمك عدل في قضائك " متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد .
أحدهما : إثبات
القدر ، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه ، لا انفكاك له عنها ، ولا
حيلة له في دفعها .
والثاني : أنه - سبحانه - عدل في هذه
الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان ، فإن الظلم
سببه حاجة الظالم ، أو جهله ، أو سفهه ، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شئ عليم ، ومن
هو غني عن كل شئ ، وكل شئ فقير إليه ، ومن هو أحكم الحاكمين ، فلا تخرج ذرة من
مقدوراته عن حكمته وحمده ، كما لم تخرج عن
قدرته ومشيئته ، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته ، ولهذا قال نبي الله هود
صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، وقد خوفه قومه بآلهتهم : " إني أشهد الله
واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت
على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم "
[هود : 54 - 57 ] ، أي: مع كونه سبحانه آخذاً بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو
على صراط مستقيم لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والإحسان والرحمة . فقوله : ماض في حكمك
، مطابق لقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) ، وقوله : عدل في قضاؤك
مطابق لقوله : إن ربي على صراط
مستقيم ، ثم توسل إلى ربه بأسمائه التي
سمى بها نفسه ما علم العباد منها وما لم يعلموا . ومنها: ما استأثره في علم الغيب
عنده ، فلم يطلع عليه ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ، وهذه الوسيلة أعظم
الوسائل ، وأحبها إلى الله ، وأقربها تحصيلاً للمطلوب
.
ثم سأله أن يجعل
القرآن لقلبه كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان ، وكذلك القرآن ربيع القلوب ، وأن
يجعله شفاء همه وغمه ، فيكون له بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ، ويعيد البدن
إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية ، وغيرها
، فأحرى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يزيل عنه داءه ، ويعقبه شفاء
تاماً ، وصحة وعافية ، والله الموفق .
وأما دعوة ذي النون
: فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب تعالى ، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما
هو من أبلغ أدوية الكرب والهم والغم ، وأبلغ الوسائل إلى الله - سبحانه - في قضاء
الحوائج ، فإن التوحيد والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال الله ، وسلب كل نقص وعيب
وتمثيل عنه . والإعتراف بالظلم يتضمن إيمان العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويوجب
انكساره ورجوعه إلى الله ، واستقالته عثرته ، والإعتراف بعبوديته، وافتقاره إلى
ربه ، فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية
والإعتراف .
وأما حديث أبي أمامة
: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن " ، فقد تضمن الإستعاذة من ثمانية
أشياء ، كل اثنين منها قرينان مزدوجان ، فالهم والحزن أخوان ، والعجز والكسل أخوان
، والجبن والبخل أخوان ، وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان ، فإن المكروه المؤلم إذا
ورد على القلب ، فإما أن يكون سببه أمراً ماضياً ، فيوجب له الحزن ، وإن كان أمراً
متوقعاً في المستقبل ، أوجب الهم ، وتخلف العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن
يكون من عدم القدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل ، وحبس خيره ونفعه عن
نفسه وعن بني جنسه ، إما أن يكون منع نفعه ببدنه ، فهو الجبن ، أو بماله ، فهو
البخل ، وقهر الناس له إما بحق ، فهو ضلع الدين ، أو بباطل فهو غلبة الرجال ، فقد
تضمن الحديث الإستعاذة من كل شر ، وأما تأثير الإستغفار في دفع الهم والغم والضيق
، فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم
والغم ، والخوف والحزن ، وضيق الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إن أهلها إذا قضوا منها
أوطارهم ، وسئمتها نفوسهم ، ارتكبوها دفعاً لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم
والغم ، كما قال شيخ الفسوق :
وكأس شربت على
لذة وأخرى تداويت منها بها
وإذا كان هذا تأثير
الذنوب والآثام في القلوب ، فلا دواء لها إلا التوبة والإستغفار .
وأما الصلاة ،
فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن ، وفيها من اتصال
القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والإبتهاج بمناجاته ، والوقوف بين
يديه ، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظه منها ،
واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى
ربه وفاطره ، وراحته من عدوه حالة الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات
والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة . وأما القلوب العليلة
، فهي كالأبدان لا تناسبها إلا الأغذية الفاضلة
.
فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح
الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهي منهاة عن الإثم ، ودافعة لأدواء
القلوب ، ومطردة للداء عن الجسد ، ومنورة للقلب ، ومبيضة للوجه ، ومنشطة للجوارح
والنفس ، وجالبة للرزق ، ودافعة للظلم ، ومنزلة للرحمة ، وكاشفة للغمة ، ونافعة من
كثير من أوجاع البطن . وقد روى ابن ماجه في
سننه من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة
قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو من وجع بطني ، فقال لي :
" يا أبا هريرة أشكمت درد ؟ قال : قلت
: نعم يا رسول الله ، قال : قم فصل ، فإن
في الصلاة شفاء " . وقد روي هذا الحديث موقوفاً على أبي هريرة
، وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبه . ومعنى هذه اللفظة بالفارسي : أيوجعك بطنك ؟
.
فإن لم ينشرح صدر
زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيخاطب بصناعة الطب ، ويقال له : الصلاة رياضة النفس
والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمل على حركات وأوضاع مختلفة من الإنتصاب ، والركوع ،
والسجود ، والتورك ، والإنتقالات وغيرها من الأوضاع التي يتحرك معها أكثر المفاصل
، وينغمز معها أكثر الأعضاء الباطنة ، كالمعدة ، والأمعاء ، وسائر آلات النفس ،
والغذاء ، فما ينكر أن يكون في هذه الحركات تقوية وتحليل للمواد ، ولا سيما بواسطة
قوة النفس وانشراحها في الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم ، ولكن داء الزندقة
والإعراض عما جاءت به الرسل ، والتعوض عنه
بالإلحاد داء ليس له دواء إلا نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى .
وأما تأثير الجهاد
في دفع الهم والغم ، فأمر معلوم بالوجدان ، فإن النفس متى تركت صائل الباطل وصولته
واستيلاءه ، اشتد همها وغمها ، وكربها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك
الهم والحزن فرحاً ونشاطاً وقوة ، كما قال تعالى : " قاتلوهم يعذبهم الله
بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم " [ التوبة
: 14 ، 15 ] ، فلا شئ أذهب لجوى القلب وغمه وهمه وحزنه من الجهاد ، والله المستعان .
وأما تأثير لا حول ولا قوة إلا
بالله في دفع هذا الداء ، فلما فيها من
كمال التفويض والتبري من الحول والقوة إلا به ، وتسليم الأمر كله له ، وعدم
منازعته في شئ منه ، وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي
، والقوة على ذلك التحول ، وأن ذلك كله بالله وحده ، فلا يقوم لهذه الكلمة شئ . وفي
بعض الآثار : إنه ما ينزل ملك من السماء ، ولا يصعد إليها إلا بلا حول ولا قوة إلا
بالله ، ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان ، والله المستعان .
فصل
في هديه صلى الله
عليه وسلم في علاج الفزع ، والأرق المانع من النوم
روى الترمذي
في جامعه
عن بريدة قال : شكى خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله
! ما أنام الليل من الأرق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أويت إلى
فراشك فقل : اللهم رب السماوات السبع وما أظلت ، ورب الأرضين ، وما أقلت ، ورب
الشياطين ، وما أضلت ، كن لي جاراً من شر خلقك كلهم جميعاً أن يفرط علي أحد منهم ،
أو يبغي علي ، عز جارك ، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك
" .
وفيه أيضاً : عن
عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من
الفزع : " أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات
الشياطين ، وأعوذ بك رب أن يحضرون " ، قال : وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من
عقل من بنيه . ومن لم يعقل كتبه ، فأعلقه عليه ، ولا يخفى مناسبة هذه العوذة لعلاج
هذا الداء .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج
داء الحريق وإطفائه
يذكر عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم
الحريق فكبروا ، فإن التكبير يطفئه " . لما كان الحريق سببه النار ، وهي مادة
الشيطان التي خلق منها ، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله
، كان للشيطان إعانة عليه ، وتنفيذ له ، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد ،
وهذان الأمران ، وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان ، وإليهما يدعو ،
وبهما يهلك بني آدم ، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد ،
وكبرياء الرب - عز وجل - تقمع الشيطان وفعله
.
ولهذا كان تكبير
الله - عز وجل - له أثر في إطفاء الحريق ، فإن كبرياء الله - عز وجل - لا يقوم لها
شئ ، فإذا كبر المسلم ربه ، أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته
، فيطفئ الحريق ، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا ، فوجدناه كذلك، والله أعلم .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ
الصحة بالطيب
لما كانت الرائحة
الطيبة غذاء الروح ، والروح مطية القوى ، والقوى تزداد
بالطيب ، وهو ينفع الدماغ والقلب ، وسائر الأعضاء الباطنية ، ويفرح القلب ، ويسر
النفس ويبسط الروح ، وهو أصدق شئ للروح ، وأشده ملاءمة لها ، وبينه وبين الروح
الطيبة نسبة قريبة . كان أحد المحبوبين من الدنيا إلى أطيب الطيبين صلوات الله
عليه وسلامه .
وفي صحيح البخاري
أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب
.
وفي صحيح مسلم
عنه صلى الله عليه وسلم : " من عرض عليه ريحان ، فلا يرده فإنه طيب
الريح ، خفيف المحمل "
.
وفي سنن أبي داود
والنسائي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم :
" من عرض عليه طيب ، فلا يرده ، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة " .
وفي مسند البزار
: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله طيب يجب الطيب ،
نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود ، فنظفوا أفناءكم وساحاتكم ،
ولا تشبهوا باليهود يجمعون الأكب في دورهم " . الأكب : الزبالة .
وذكر ابن أبي شيبة
، أنه صلى الله عليه وسلم كان له سكة يتطيب منها
.
وصح عنه أنه قال : " إن لله حقاً على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام
، وإن كان له طيب أن يمس منه " . وفي الطيب من الخاصية ، أن الملائكة تحبه ،
والشياطين تنفر عنه ، وأحب شئ إلى الشياطين الرائحة المنتنة الكريهة ، فالأرواح
الطيبة تحب الرائحة الطيبة ، والأرواح الخبيثة تحب الرائحة الخبيثة ، وكل روح تميل
إلى ما يناسبها ، فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين ،
والطيبيون للطيبات ، وهذا وإن كان في النساء والرجال ، فإنه يتناول الأعمال
والأقوال ، والمطاعم والمشارب، والملابس والروائح ، إما بعموم لفظه ، أو بعموم
معناه .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ
صحة العين
روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة
الأنصاري ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
بالإثمد المروح عند النوم وقال : " ليتقه الصائم " . قال أبو عبيد : المروح
: المطيب بالمسك .
وفي سنن ابن ماجه
وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم
مكحلة يكتحل منها ثلاثاً في كل عين
.
وفي الترمذي : عن
ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اكتحل يجعل
في اليمنى ثلاثاً ، يبتدىء بها ، ويختم بها ، وفي اليسرى ثنتين .
وقد روى أبو داود
عنه صلى الله عليه وسلم : " من اكتحل فليوتر " . فهل الوتر بالنسبة إلى
العينين كلتيهما ، فيكون في هذه ثلاث ، وفي هذه ثنتان ، واليمنى أولى بالإبتداء
والتفضيل ، أو هو بالنسبة إلى كل عين ، فيكون في هذه ثلاث ، وفي هذه ثلاث ، وهما
قولان في مذهب أحمد وغيره .
وفي الكحل حفظ لصحة
العين ، وتقوية للنور الباصر ، وجلاء لها ، وتلطيف للمادة الرديئة ، واستخراج لها
مع الزينة في بعض أنواعه ، وله عند النوم مزيد فضل لاشتمالها على الكحل ، وسكونها
عقيبه عن الحركة المضرة بها ، وخدمة الطبيعة لها ، وللإثمد من ذلك خاصية .
وفي سنن ابن ماجه
عن سالم عن أبيه يرفعه : " عليكم بالإثمد ، فإنه يجلو البصر ، وينبت
الشعر " .
وفي كتاب أبي نعيم
: " فإنه منبتة للشعر ، مذهبة للقذى ، مصفاة للبصر " .
وفي سنن ابن ماجه
أيضاً : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعه : " خير أكحالكم الإثمد
، يجلو البصر ، وينبت الشعر "
.