الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

الحمدلله نستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.  أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا،وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة، والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله. فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن، ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أعداء الله وأولياء الشياطين.

 

لله أولياء وللشيطان أولياء

وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. فقال تعالى:" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم " وقال تعالى: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ". وقال تعالى: " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ".

 

وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " وقال تعالى: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ". وقال تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ". وقال تعالى: " ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ". وقال تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " وقال تعالى : " إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون * وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا " إلى قوله " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " وقال تعالى :" وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " ، وقال الخليل عليه السلام : " يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا " ، وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " الآيات إلى قوله " إنك أنت العزيز الحكيم "

 

فصل في صفات أولياء الله

وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون ".

 

الإيمان والتقوى

وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة - أو فقد آذنته بالحرب - وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ". - وفي رواية فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي - " ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته. ولابد له منه " وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله في المحاربة.

  

الحب في الله والبغض في الله

وفي حديث آخر: " و إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " أي: آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله " وفي حديث آخر رواه أبو داود وقال: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ".

 

 

موالاة الطاعات

والولاية: ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد. وقد قيل أن الولي سمي وليا من موالاته للطاعات، أي متابعته لها، والأول أصح. والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا، أي يقرب منه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر " أي لأقرب رجل إلى الميت. ووكده بلفظ الذكر ليبين أنه حكم يختص بالذكور، ولا يشترك فيه الذكور والإناث، كما قال في الزكاة: " فابن لبون ذكر ".

فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له، كما قال تعالى: " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة "  فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال: " ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ".

 

أفضل أولياء الله

وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " وقال تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما ".

 

أفضل أولي العزم

وأفضل أولي العزم: محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة، الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقا، وأول الأمم بعثا، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه - يعني يوم الجمعة - فهدانا الله له: الناس لنا تبع فيه، غدا لليهود، وبعد للنصارى ".

وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا أول من تنشق عنه الأرض ". وقال صلىالله عليه وسلم: " آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد. فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ".

وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة، ومن حين بعثه الله جعله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه: فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به، واتبعه باطنا وظاهرا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه، فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان. قال تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " قال  الحسن البصري رحمه الله : ادعى قوم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها، أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من أولياء الله: وأن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم، أو في غيرهم، أنهم من أولياء الله، ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء لله(وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم، بل يدعون أنهم أبناؤه ) وأحباؤه. قال تعالى: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق " الآية، وقال تعالى: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم "، إلى قوله: " ولا هم يحزنون "

  

ادعاء مشركي العرب أنهم أهل الله

وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله، لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم، كما قال تعالى: " قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون " وقال تعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك " إلى قوله: " وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته، إنما أولياؤه المتقون.

 

حديث: وليي الله وصالح المؤمنين

وثبت في  الصحيحين  عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر: " إن آل فلان ليسوا لي بأولياء - يعني طائفة من أقاربه - إنما وليي الله وصالح المؤمنين " وهذا موافق لقوله تعالى: " فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين "  الآية. وصالح المؤمنين: هو من كان صالحا من المؤمنين. وهم المؤمنون المتقون أولياء الله. ودخل في ذلك أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة،وكانوا ألفا وأربعمائة، وكلهم في الجنة، كما ثبت في  الصحيح  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " ومثل هذا الحديث الآخر: إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا.  

 

لا طريق غير طريق الإسلام

كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله، وليس وليا لله، بل عدو له. فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الاسلام، يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الأنس، بل إلى الثقلين: الأنس والجن، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل أن لا يقروا في الباطن بأنه رسول الله، وإنما كان ملكا مطاعا، ساس الناس برأيه، من جنس غيره من الملوك، أو يقولون: إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق، وأن لله أولياء خاصة، لم يرسل إليهم، ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كل مايحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها. وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها، أولم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته.

 

حال أهل الصفة

وقد يقول بعض هؤلاء: إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه، ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول: إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج، فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم، لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة، كما قال تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم، فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد، إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه.

ولم يكن أهل الصفة ناسا بأعيانهم يلازمون الصفة، بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زمانا، ثم ينتقل منها، والذين ينزلون بها من جنس سائر المسلمين، ليس لهم مزية في علم ولا دين، بل فيهم من ارتد عن الاسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم، كالعرنيين الذين اجتووا المدينة، أي: استوخموها، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح - أي إبل لها لبن  - وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا، قتلوا الراعي، واستاقوا الذود، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون.

وحديثهم في  الصحيحين  من حديث  أنس ، وفيه أنهم نزلوا الصفة، فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص، وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل عنها، ونزلها أبو هريرة وغيره، وقد جمع  أبو عبد الرحمن السلمي  تاريخ من نزل الصفة.

وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة، وكذلك أكابر المهاجرين- كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن ابن عوف، وأبي عبيدة (بن الجراح) وغيرهم - لم يكونوا من أهل الصفة.

    

كذب كل حديث يروى عن النبي في عدة الأولياء

وقد روي أنه كان بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  هذا واحد من السبعة وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في  الحلية  وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء، والأبدال، والنقباء، والنجباء، والأوتاد، والأقطاب، مثل أربعة، أو سبعة، أو اثني عشر، أو أربعين، أو سبعين، أو ثلاثمائة، أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال.

وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلا، وأنهم بالشام، وهو في  المسند  من حديث علي كرم الله وجهه، وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة، كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي.

وقد أخرجا في  الصحيحين  عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق " وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي،فقتلهم علي ابن أبي طالب وأصحابه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي ابن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما.

وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد:

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ قد لسعت حية الهوى كبدي  فلا طبيب لها ولا راقي    

 إلا الحبيب الذي شغفت به      فعنده  رقيتي  وترياقي

 وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه‌ مايرويه بعضهم أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه، فعلقها على العرش، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذبا عليه.

وكذلك ما يروونه عن عمر رضي الله عنه أنه قال:  كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان، وكنت بينهما كالزنجي، وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.

  

هل يكون لله ولي من النصارى واليهود

والمقصود هنا، أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك، فيكون منافقا، وهو يدعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما عنادا، أو جهلا، كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله. وأن محمدا رسول الله. لكن يقولون: إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وإنه لا يجب علينا اتباعه، لأنه أرسل إلينا رسلا قبله، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله، وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون ".

 

ما لابد منه في الإيمان

ولابد في الايمان من أن يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.ويؤمن بكل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله، كما قال تعالى: " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ".

 

الأركان الخمسة

وقال تعالى:" آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ".

 

محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

وقال في أول السورة: " الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " فلا بد في الايمان من أن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين: الجن والانس.

 

الإيمان بجملة ما جاء

فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين. ومن آمن ببعض ماجاء به وكفر ببعض، فهو كافر ليس بمؤمن، كما قال الله تعالى: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض  ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ".

 

الإيمان بوساطته في التبليغ

ومن الايمان به: الايمان بأنه هو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان.

وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابتهم لدعائهم، وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار، فهذا لله وحده، يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل.

 

أولياء من جنس الكهان والسحرة

ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم. وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين، مشركي العرب والترك والهند، وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك، وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به محمد، فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان، مثل أرسطو وأمثاله، كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيرا للاسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذي تؤرخ له تواريخ الروم واليونان، وتؤرخ به اليهود والنصارى. وليس هذا هو ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه، كما يظن بعض الناس أن أرسطوا كان وزيرا لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الاسكندر، وهذا قد يسمى بالاسكندر، ظنوا أن هذا ذاك، كما يظنه ابن سينا وطائفة معه.

وليس الأمر كذلك، بل هذا الاسكندر  المشرك - الذي قد كان أرسطو وزيره -متأخر عن ذاك، ولم يبن هذا السد، ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج، وهذا الاسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه، يؤرخ له تاريخ الروم المعروف.

وفي أصناف المشركين، من مشركي العرب، ومشركي العرب، ومشركي الهند، واليونان، وغيرهم، من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل، ولا مؤمن بما جاؤوا به، ولا يصدقهم فيما أخبروا به، ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء الله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذي تنزل عليهم الشيطان، قال تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ".وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلا بد أن يكذبوا وتكذيبهم شياطينهم، ولا بد أن يكون في أعمالهم ماهو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة.

ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " وذكر الرحمن هو الذكر الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن، فمن لم يؤمن بالقرآن، ويصدق خبره، ويعتقد وجوب أمره، فقد أعرض عنه، فيقيض له الشيطان فيقترن به.

قال تعالى: " وهذا ذكر مبارك أنزلناه " وقال تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال  كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى "، فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد، وعبده مجتهدا في عبادته، ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله - وهو القرآن - كان من أولياء الشيطان، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء، فإن الشيطان يحمله في الهواء، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

  

خصال المنافقين أربع من أمر الجاهلية

ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في  الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر ".

وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الايمان بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الايمان " فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها.

و"قد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبي ذر وهو من خيار المؤمنين: إنك امرؤ فيك جاهلية ،فقال: يا رسول الله! أعلى كبر سني؟ قال:(نعم) ".

وثبت في الصحيح عنه أنه قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ".

وفي الصحيحين "عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم،أنه قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ".

وفي  صحيح مسلم : " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ".

 

خوف أصحاب النبي ‌‍‌‌‌‌‌صلى الله عليه وسلم من النفاق

وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة أنه قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. وقد قال الله تعالى: " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان "، فقد جعل هؤلاء إلى الكفر، أقرب منهم للإيمان، فعلم أنهم مخلطون، وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى.

وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فبحسب إيمان العبد وتقواه ‌‌‌تكون ولايته لله تعالى، فمن كن أكمل إيمانا وتقوى ، كان أكمل ولاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل، بحسب تفاضلهم في الايمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله، بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى: " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " وقال تعالى: " إنما النسيء زيادة في الكفر " وقال تعالى: " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ، وقال تعالى في المنافقين " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " ، فبين سبحانه وتعالى : أن الشخص الواحد ، قد يكون فيه قسط من ولاية الله ، بحسب إيمانه ، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله ، بحسب كفره ونفاقه .

وقال تعالى : " ويزداد الذين آمنوا إيمانا " ، وقال تعالى : " ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " .

 

أولياء الله طبقتان:سابقون مقربون، وأصحاب يمين

فصل وأولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون وذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز، في أول سورة( الواقعة) وآخرها، وفي سورة(الانسان) و ( المطففين)، وفي سورة( فاطر)، فإنه سبحانه وتعالى ذكر في (الواقعة) القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها، فقال في أولها: ‌" إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة * إذا رجت الأرض رجا * وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين ".

فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع، ثم قال تعالى في آخر السورة: " فلولا " أي فهلا " إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم * وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين * وأما إن كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم ".

وقال تعالى في سورة الإنسان: " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا * إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا * إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا " الآيات.

وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال: " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون * كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون ".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف، قالوا: يمزج لأصحاب اليمين مزجا، ويشرب بها المقربون صرفا، وهو كما قالوا: فإنه تعالى قال: " يشرب بها "، ولم يقل يشرب منها، لأنه ضمن قوله: يشرب معنى يروى، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل: يشربون منها، لم يدل على الري، فإذا قيل: يشربون بها، كان المعنى يروون بها، فالمقربون، يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صرفا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا، وهو كما قال تعالى في سورة الانسان: " كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ".

 

الجزاء من جنس العمل

فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة، وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والأخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في، عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". رواه مسلم في  صحيحه ‍. وقال صلى الله عليه وسلم: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " قال الترمذي: حديث صحيح.

وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في  السنن  يقول الله تعالى: " أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته "، وقال: " ومن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله "، ومثل هذا كثير.

وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون، وأصحاب يمين، كما تقدم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال:  يقول الله تعالى:" من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به،وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ".

فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات.

وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات، والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع مايقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما، كما قال تعالى: " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه "، يعني الحب المطلق كقوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " أي أنعم عليهم الانعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ".

فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل، فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفا، كما عملوا له صرفا. والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون عليه، ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفا، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.

        

الأنبياء منهم عبد رسول ومنهم نبي ملك

ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول، ونبي ملك، وقد خير الله سبحانه محمداصلى الله عليه وسلم، وبين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا، فاختار أن يكون عبدا رسولا، فالنبي الملك، مثل داود وسليمان ونحوهما عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي قال: " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ". أي : أعط من شئت، واحرم من شئت، لا حساب عليك، فالنبي الملك، يفعل ما فرض الله عليه، ويترك ما حرم الله عليه، ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار، من غير إثم عليه.

وأما العبد الرسول، فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه، ولا يعطي من يشاء، ويحرم من يشاء، بل يعطي من أمره ربه باعطائه، ويولي من أمره ربه بتوليته،فأعماله كلها عبادات لله تعالى، كما في  صحيح البخاري  عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني والله لا أعطي أحدا، ولاأمنع أحدا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول، كقوله تعالى: " قل الأنفال لله والرسول " وقوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول " وقوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " .

ولهذا كان أظهر أقوال العلماء، أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر، كما هو مذهب  مالك  وغيره من السلف، ويذكر هذا رواية عن  أحمد ، وقد قيل في الخمس: إنه يقسم على خمسة، كقول  الشافعي ، و  أحمد  في المعروف عنه، وقيل: على ثلاثة، كقول أبي حنيفة رحمه الله.

والمقصود هنا، أن العبد الرسول، هو أفضل من النبي الملك، كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام، أفضل من يوسف، وداود، وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين، أفضل من الأبرار أصحاب اليمين، الذين ليسوا مقربين سابقين، فمن أدى ما أوجب الله عليه، وفعل من المباحات مايحبه، فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه، ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله، فهو من أولئك.

فصل

وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة( فاطر) في قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " لكن هذه الاصناف الثلاثة في هذه الآية، هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله  ذلك هو الفضل الكبير ".

      

أمة محمد صلى الله عليه وسلم وارثة الكتاب

وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصا بحفاظ القرآن، بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، بخلاف الآيات التي في ( الواقعة) (والمطففين) (والانفطار) فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة، كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالظالم لنفسه: أصحاب الذنوب المصرون عليها. والمقتصد: المؤدي للفرائض، المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات: هو المؤدي للفرائض، والنوافل، كما في تلك الآيات. ومن تاب من ذنبه، أي ذنب كان، توبة صحيحة، لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين، كما في قوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ".‍‍

وقوله: " جنات عدن يدخلونها " مما يستدل به أهل السنة، على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد.

 

القول في عذاب أهل الكبائر

وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار، فهذا مما توارت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تواترت بخروجهم من النار، وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم ،وشفاعة غيره، فمن قال: إن أهل الكبائر مخلدون في النار، وتأول الآية على أن السابقين، هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله (من تأوله) من المعتزلة، فهو مقابل بتأويل المرجئة، الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار، ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع سلف الأمة وأئمتها.

وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى في آيتين من كتابه، وهو قوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك، يغفره الله أيضا للتائب، فلا تعلق بالمشيئة، وهذا لما ذكر المغفرة للتائبين، قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم". فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له.

ففي آية التوبة، عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للحالتين، وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه، كتعطيل الخالق، أويجوز أن لا يعذب بذنب، فأنه لو كان كذلك، لما ذكر أنه يغفر للبعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورا له، بلا توبة ولا حسنات ماحية، لم يعلق ذلك بالمشيئة.

وقوله تعالى: " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " دليل على أنه يغفر للبعض دون البعض، فبطل النفي والعفو العام.

 

أصل الإيمان

وإذا كان أولياء الله عز وجل، هم المؤمنين المتقين، والناس يتفاضلون في الأيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق، كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك.

وأصل الإيمان والتقوى: الايمان برسل الله، وجماع ذلك: الايمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالايمان به يتضمن الايمان بجميع كتب الله ورسله. وأصل الكفر والنفاق، هو الكفر بالرسل، وبما جاؤوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه، أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة. قال الله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وقال تعالى عن أهل النار: " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير "

فأخبر أنه كلما ألقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير.وقال تعالى في خطابه لابليس: " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه، فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم. فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له، فإنه ممن لم يتبع الشيطان ولم يكن مذنبا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل.

   

الإيمان المجمل والمفصل

ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا( عاما) مجملا، وأما الايمان المفصل، فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك، فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه، ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا،فهذا إذا عمل بما علم أن أمره به مع إيمانه وتقواه، فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه. وما لم تقم عليه الحجة به، فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته، والايمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسول، وآمن به إيمانا مفصلا، وعمل به، فهو أكمل إيمانا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا، ولم يعمل به، وكلاهما ولي الله تعالى. والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم. قال الله تبارك وتعالى: " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ". فبين الله سبحانه وتعالى،أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظورا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى: " انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا "، فبين الله سبحانه، أن أهل الاخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس  في الدنيا، وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا، وقد بين تفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس " وقال تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ".

وفي  صحيح مسلم  عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لوأني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ".

وفي  الصحيحين  عن أبي هريرة، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " :إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ". وقد قال الله تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " وقال تعالى:" لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما " وقال تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم " وقال تعالى: " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب "، وقال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ".

     

لا يكون أحد من الكفار والمنافقين وليا

وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا، لقوله تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون ".

وفي  صحيح البخاري  الحديث المشهور، وقد تقدم يقول الله تبارك وتعالى فيه: " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلىبالفرائض، فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل، حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار، ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل: أنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم، فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين، فمن (لم) يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات، لم يكن من أولياء الله.

 

المجنون والمكاشفات

وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يرفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ ".

وهذا الحديث قد رواه أهل  السنن  من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، ولا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة، فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع.

 

لا ولاية لمن لا يؤدي الفرائض

وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ، ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك، إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى أحد، فمات أو صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب، لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعباد المشركين، وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله، وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله، مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أويعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة على العامة، أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته، كان فيها مؤمنا بالله متقيا، كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له حال إفاقته فيه كفر أو نفاق، أو كان كافرا أو منافقا، ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق.

 

بدعة التميز باللباس والحلاقة

وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره، إذا كان مباحا، كما قيل: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء. بل يوجد في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجد في أهل الجهاد والسيف ويوجدون في التجار والصناع والزراع.

وقد ذكر الله أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه ".

 

التحقيق في أسم الصوفية

وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم: ( القراء ) فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية و الفقراء. واسم الصوفية: هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح.

وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء. وقيل: إلى صوفة (بن مر ) ابن أد بن طابخة، قبيلة من العرب، كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفة. وقيل: إلى ( أهل ) الصفاء وقيل: إلى الصفوة. وقيل:إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة، فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي، أو صفائي، أو صفوي أو صفي، ولم يقل: صوفي، وصار اسم الفقراء، يعنى به أهل السلوك، وهذا عرف حادث، وقد تنازع الناس: أيهما أفضل، مسمى الصوفي، أو مسمى الفقير؟ و يتنازعون أيضا أيهما أفضل، الغني الشاكر، أو الفقير الصابر؟.

 

الناس معادن وتفاضلهم بالتقوى

وهذه المسألة فيها نزاع قديم، بين  الجنيد  وبين  أبي العباس بن عطاء ، وقد روي عن  أحمد بن حنبل  فيها روايتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى، حيث قال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ".

وفي  الصحيح  "عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: أي الناس أفضل؟ قال:  (أتقاهم) قيل له: ليس عن هذا نسألك، فقال:  يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن اسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله . فقيل له: ليس عن هذا نسألك. فقال:  عن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام، إذا فقهوا ".

فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم.

وفي  السنن  عن النبي صلى أنه قال: " لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب ".

وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي ". فمن كان من هذه الأصناف اتقى لله، فهو أكرم عند الله، وإذا استويا في التقوى، استويا في الدرجة.

    

لفظ الفقر شرعا

ولفظ الفقر في الشرع، يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه، كا قال تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " وقال تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله " وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء: أهل الصدقات، وأهل الفيء.

فقال في الصنف الأول: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا".

وقال في الصنف الثاني، وهم أفضل الصنفين: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ".

وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات، وجاهدوا أعداء الله باطنا وظاهرا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن من أمنه الناس علىدمائهم وأموالهم " و " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "  " والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ".

 

لا أصل لحديث: رجعنا من الجهاد الأصغر

وأما الحديث الذي يرويه بعضهم، أنه قال في غزوة تبوك:  رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر  فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله.

 

جهاد الكفار من أعظم الجهاد

وجهاد الكفار من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان. قال الله تعالى: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ".

 

أفضل الإيمان

وقال تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ".

وثبت في  صحيح مسلم  وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن أعمل عملا بعد الاسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال علي ابن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما، فقال عمر: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته، فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وفي  الصحيحين  عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟ قال: " الصلاة على وقتها " قلت: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين " قلت: ثم أي؟ قال: " الجهاد قي سبيل الله ". قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني.

وفي  الصحيحين  عنه صلى الله عليه أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله، وجهاد في سبيله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور ".

وفي  الصحيحين  أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله، قال: " لا تستطيعه، أولا تطيقه " قال فأخبرني به، قال: " هل تستطيع إذا خرجت مجاهدا أن تصوم ولا تفطر، وتقوم ولا تفتر؟ "‍‍‍‌ ‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍ 

 

‍‍‍حق الله على عباده

وفي  السنن  "عن معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن، فقال:  يامعاذ اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " وقال: " يا معاذ إني لأحبك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك "، وقال له وهو رديفه: " يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟‍ قلت: الله ورسوله أعلم. قال:  حقه عليهم أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال:  حقهم عليه ألا يعذبهم ".

وقال أيضا لمعاذ: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " وقال: " يا معاذ ألا أخبرك بأبواب البر؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل  ثم قرأ: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " ثم قال:  يا معاذ ألا أخبرك بما هو أملك لك من ذلك؟  فقال: امسك عليك لسانك هذا، فأخذ بلسانه، قال: يا رسول الله وإنا لمؤخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ".

    ‍‌

ليس في السنة إفراط ولا تفريط

وتفسير هذا ما ثبت في  الصحيحين  عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في   صحيح البخاري ‌‍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما هذا؟ فقالوا: أبوإسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه ".

وثبت في  الصحيحين  عن أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تقالوها. فقالوا:وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الاخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال رجال يقول أحدهم: كذا وكذا ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "، أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله، وقال تعالى:" ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم،كما ثبت عنه في  الصحيح  أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة.  

 

ليس في السنة إفراط ولا تفريط

وتفسير هذا ما ثبت في  الصحيحين  عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في   صحيح البخاري ‌‍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما هذا؟ فقالوا: أبوإسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه ".

وثبت في  الصحيحين  عن أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تقالوها. فقالوا:وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الاخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال رجال يقول أحدهم: كذا وكذا ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "، أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله، وقال تعالى:" ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم،كما ثبت عنه في  الصحيح  أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة.  

 

هل يعصم الأولياء

فصل وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى، وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

 

الدعاء بالآية: ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا...

فقال تعالى: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون  كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ".

وقد ثبت في  الصحيح  أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: " قد فعلت ".

ففي  صحيح مسلم  عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:" لما نزلت هذه الآية: " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ".قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا  قال: فألقى الله الايمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى قوله " أو أخطأنا " قال الله: قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال: قد فعلت " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " قال: قد فعلت. وقد قال تعالى: " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم " ".

 

أجرالمحتهد

وثبت في  الصحيحين  عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا، أنه قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وأن أخطأ فله أجر ". فلم يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجرا على اجتهاده، وجعل خطأه مغفورا له، ولكن المجتهد المصيب له أجران، فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط، ولم يجب على الناس الايمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله، إلا أن يكون نبيا.

 

لا يجوز لولي الاعتماد على ما يلقى في قلبه

بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه، إلا أن يكون موافقا، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ماجاء به محمد فإن وافقه قبله، وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه.

والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط، فمنهم من من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله، وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال او فعل ما ليس بموافق للشرع، أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها، وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما إذا كان مجتهدا مخطئا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده.

 

وجوب اتباع ما بعث الله رسوله

‍‍‌‍والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول: هذا خالف الشرع.‍

 

أحاديث في فضائل عمر رضي الله عنه

وقد ثبت في  الصحيحين  عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم  ".وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "  لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ".

وفي حديث آخر: " إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ". وفيه: " لو كان نبي بعدي لكان عمر " وكان علي ابن أبي طالب  رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. ثبت هذا عنه من رواية  الشعبي . وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا، إلا كان كما يقول. وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك. وكان عمر يقول: اقتربوامن أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة. وهذه الامور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انها تتجلى للمطيعين، هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات، وأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.

وقد ثبت في  الصحيح  تعيين عمر، بأنه محدث في هذه الأمة فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر، كما نزل القرآن بموافقته غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك، كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في  البخاري  وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم، على أن يرجع في ذلك العام، ويعتمر من العام القابل، وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة.

 

حديث ..  اني رسول الله... ولست أعصيه

وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى "، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: " بلى "، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه " ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، قال: " بلى "، قال: " أقلت لك: إنك تأتيه العام؟ " قال: لا، قال: " إنك آتيه ومطوف به ".

فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم. فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال فعملت لذلك أعمالا.

وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه، أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات. رجع عمر عن ذلك.

 

قتال مانعي الزكاة

وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها " فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: " إلا بحقها " فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى اللله عليه وسلم لقتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.

 

مرتبة الصديق ومرتبة المحدث

ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه محدث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم.

 

لا ولاية لمن خالف الكتاب والسنة

ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم، ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقرهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني، فأي أحد ادعى، أو ادعى له أصحابه أنه ولي لله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه ان يقبلوا منه كل ما يقوله، ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة، فهو وهم مخطئون، ومثل هذا أضل الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقوله - وهو وهم - على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأنبياء وحدهم يطاعون في كل ما يأمرون به

وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، يجب لهم الايمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء، فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الايمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدا معذورا فيما قاله، له أجر على اجتهاده،ولكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول: " فاتقوا الله ما استطعتم "

 

معنى:  اتقوا الله حق تقاته

وهذا تفسير قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ".

قال  ابن مسعود  وغيره: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. أي بحسب استطاعتكم، فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما قال تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وقال تعالى: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " وقال تعالى: " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ".

 

كيف يكفر أدعياء الولاية

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الايمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع، كقوله تعالى: " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " وقال تعالى: " الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " وقال تعالى: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ".

وهذا الذي ذكرته، من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، ومن خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم، بل إما ان يكون كافرا، وإما ان يكون مفرطا في الجهل.

 

أقوال لأبي سليمان الداراني و الجنيد

وهذا كثير في كلام المشايخ، كقول الشيخ  أبي سليمان الداراني : انه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة.

وقال  أبو القاسم الجنيد  رحمه الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا ، أو قال: لا يقتدى به.

وقال  أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا ،نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا، نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: " وإن تطيعوه تهتدوا ".

وقال  أبو عمر بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

 

غلط الناس في اتباع من خالف السنة والكتاب

وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع، فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل مايفعله، وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه واعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار،  وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين،ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخر إلى الكفر والنفاق، ويكون له نصيب من قوله تعالى: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا " وقوله تعالى: " يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا "   

 

مشابهتم للنصارى

وقوله تعالى: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ".

وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ".

وفي  المسند  وصححه  الترمذي  عن  عدي بن حاتم  في تفسيره هذه الاية، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " احلو عليهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم " ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الايمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الايمان بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم، ملوكهم وسوقتهم، وأنه لاطريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه، كا قال تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ".

   

ميثاق الله على الأنبياء للايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق، لئن بعث محمد وهن أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقد قال تعالى: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا * وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ".

 

الاغترار بالمكاشفات والتصرفات الخارقة للعادة

وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول، مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي الله، وان ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيرا من هؤلاء، عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله، أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أويطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا، أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، او يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله، بل قد اتفق أولياء الله، على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يعتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه.

 

معنى الكرامة

وكرامات أولياء الله تعالى، أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله، فقد يكون عدوا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الايمان والقرآن وبحقائق الايمان الباطنة وشرائع الاسلام الظاهرة.

مثال ذلك أن الأمور المذكورة وأمثالها، قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب " وقال عن هذه الأخلية: " إن هذه الحشوش محتضرة " أي يحضرها الشيطان، وقال: " من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين، فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ".

وقال: " إن الله طيت لا يقبل إلا طيبا " وقال: " إن الله نظيف يحب النظافة " وقال: " خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والفأرة والحدأة والكلب العقور ".

وفي رواية: " الحية والعقرب " وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب. وقال: " من أقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا، نقص من عمله كل يوم قيراط " وقال: " لا تصحب الملائكة رفقة معه كلب " وقال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله، سبع مرات إحداهن بالتراب ".

وقال تعالى: " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ".

  

علامات أولياء الشيطان

فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش، التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير، وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات، ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار، من اليهود والنصارى، أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات اولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن، فهو يحب الله، وإن كان يبعض القرآن فهو يبغض الله ورسوله.

وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل.

وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الايمان في القلب، كما ينبت الماء البقل، والغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الايمان الباطنة، فارقا بين الأحوال الرحمانية، والأحوال الشيطانية، فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم " وقال تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه  الترمذي  ‍‍‌عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " قال  الترمذي  حديث حسن .      

 

المؤمن يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في  البخاري  وغيره قال فيه: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ( فبي يسمع، وبي بيصر، وبي يبطش، وبي يمشي) ، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله، ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ( ولا بد له منه) ".

فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين، وموسى والمسيح وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين، وأولياء الشيطان الضالين.

 

لكل نبي شرعة ومنهاج

فصل والحقيقة حقيقة الدين، دين رب العالمين: هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج، فالشرعة: هي الشريعة قال الله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " وقال تعالى: " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين " والمنهاج: هو الطريق. قال تعالى: " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ".

فالشرعة بنزله الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وهي حقيقة دين الاسلام، وهي أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره، فمن استسلم لغيره كان مشركا، والله " لا يغفر أن يشرك به " ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته، كان ممن قال الله فيه: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ".

 

الإسلام دين الأنبياء

ودين الاسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين. وقوله تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " عام في كل زمان ومكان.

فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون، كلهم دينهم الاسلام، الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له. قال الله تعالى عن نوح: " يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم " إلى قوله: " وأمرت أن أكون من المسلمين " وقال تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون "‍‌ وقال تعالى: " وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين".

وقال السحرة: " ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ".

وقال يوسف عليه السلام: " توفني مسلما وألحقني بالصالحين ".

وقالت بلقيس: " أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ". وقال تعالى: " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار " وقال الحواريون: " آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ".

 

دين واحد وشرائع منوعة

فدين الأنبياء واحد، وإن تنوعت شرائعهم، كما في  الصحيحين  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنا معشر الأنبياء ديننا واحد " قال تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه "، وقال تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ".

 

الأنبياء أفضل من الأولياء بالاتفاق

وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها، وسائر أولياء الله تعالى، على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب، فقال تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ".

 

أفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر

وفي الحديث: " ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر " وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وقال تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في  المسند : " أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله ".

خير القرون

 

خير القرون

وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، القرن الأول.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من غير وجه أنه قال: " خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "، وهذا ثابت في  الصحيحين  من غير وجه.

 

أفضل السابقين الأولين

وفي  الصحيحين  أيضا عنه صلى الله عليه وسم انه قال: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، مابلغ مد أحدهم ولا نصيفه ".

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أفضل من سائر الصحابة.

قال تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " وقال تعالى: " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه " والسابقون الأولون:  الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية فإنه كان من أول فتح مكة، وفيه أنزل الله تعالى: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقالوا: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: " نعم ".

وأفضل السابقين الأولين، الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان  وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلت على ذلك دلائل، بسطناها في  منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية.

وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة، على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة. وأفضل أولياء الله تعالى، أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول واتباعا له، كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله، إذاكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه.

    

الكلام على خاتم الأولياء

وقد ظن طائفة غالطة، أن خاتم الأولياء أفضل الأولياء، قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء، إلا  محمد بن علي الحكيم الترمذي ، فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته.

 

مزاعم ابن عربي

كما زعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب  الفتوحات المكية  وكتاب  الفصوص ، فخالف الشرع والعقل، مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأولياءه، كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم: لا عقل ولا قرآن.

وذلك أن الأنبياء أفضل في زمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، أفضل من الأولياء، فكيف الأنبياء كلهم؟! والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم، ويدعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم، كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد آدم ولا فخر " وقوله: " آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، أن لا أفتح لأحد قبلك ".

 

احتياج شريعة عيسى عليه السلام إلى النبوات السابقة

وليلة المعراج، رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم، فكان احقهم بقوله تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " إلى غير ذلك من الدلائل، كل منهم يأتيه الوحي من الله، لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره، فلم تحتج شريعته إلى سابق، ولا إلى لاحق، بخلاف المسيح، احالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وجاء المسيح فكملها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح، كالتوراة والزبور، وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أغناهم به، فلم يحتاجوا معه إلى نبي، ولا إلى محدث، بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله بما به أنزله إليه، وأرسله إليه، لا بتوسط بشر.

وهذا بخلاف الأولياء، فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق، هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه، لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه.

  

هل للولي طريق لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم

ومن ادعى أن من الأولياء بالذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد، فهذا كافر ملحد، وإذا قال:أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر، دون علم الباطن، أو في علم الشريعة، دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، فكانوا كفار بذلك.

 

إيمان الأولياء بين الباطن والظاهر

وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بعث بعلم الظاهر، دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر، وهو أكفر من أولئك، لأن علم الباطن، الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها، هو علم بحقائق الايمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الاسلام الظاهرة.

 

كفر من يدعي ان محمدا صلى الله عليه وسلم علم من الأمور ظاهرها وان الأولياء علموا باطنها

فإذا ادعى المدعي، أن محمدا صلى الله عليه وسلم، إنما علم هذه الأمور الظاهرة، دون حقائق الايمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول، دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به، أدنى القسمين.

 

لا مثيل لولاية محمد صلى الله عليه وسلم على الاطلاق

وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويلبسون على الناس، فيقولون: ولايته أفضل من نبوته، وينشدون:

  مقام النبوة في برزخ     فويق الرسول ودون الولي

ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد، لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله فيها هؤلاء الملحدون.

وكل رسول نبي ولي، فالرسول نبي ولي، ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لولايته، وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله، فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنبائه إياه، ممتنع أن يكون إلا وليا لله، ولا تكون مجردة عن ولايته، ولو قدرت مجردة، لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته.

 

ادعاؤهم بوحدة معدن الأنبياء والأولياء

وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب  الفصوص   ابن عربي : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة، ثم أخرجوها في قالب المكاشفة، وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية، لها علة تتشبه بها، كما يقوله  أرسطو  وأتباعه: أولها موجب بذاته، كما يقوله متأخروهم،  كابن سينا ، وأمثاله، ولايقولون: إنها لرب خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزيئات، بل إما أن ينكروا علمه مطلقا، كقول  أرسطو ، أو يقولوا: إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها، كما يقول  ابن سينا ، وحقيقة هذا القول، إنكار علمه بها، فان كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الافلاك، كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات، لم يعلم شيئا من الموجودات والكليات إنما توجد كليات في الأذهان، لا في الأعيان.

والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر، في رد تعارض العقل والنقل وغيره، فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون: إن الله خلق السماوات والأرض وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته.

و  أرسطو  ونحو من المتفلسفة واليونان، كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والانبياء، وليس في كتب  أرسطو  ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية.

  

فساد تلفيق ابن سينا في الأمور الإلهية

وأما الأمور الإلهية، فكل منهم فيها قليل الصواب، كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اعلم بالهيئات منهم بكثير، ولكن متأخروهم   كابن سينا  ( غيره) أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة، وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة اهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع.

وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل، كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم، واعترفوا بالناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم ناموس طرق العالم، ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن، أرادوا ان يجمعوا بين ذلك، وبين أقوال سلفهم اليونان، الذين أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأولئك قد أثبتوا عقولا عشرة، يسمونها: المجردات، والمفارقات.

وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، وسموا تلك: المفارقات لمفارقتها المادة، وتجردها عنها. وأثبتوا الأفلاك، لكل فلك نفسا، وأكثرهم جعلوها أعراضا، وبعضهم جعلوها جواهر.

 

 

الجزء الثاني >>>