الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
الجزء الثانــي
وهذه
المجردات التي أثبتوها، ترحع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان، لا في
الأعيان ( كما أثبت أصحاب
فيثاغورس أعدادا مجردة،و)
كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الافلاطونية المجردة، أثبتوا
هيولى مجردة عن الصورة، ومدة وخلاء مجردين، وقد اعترف حذاقهم، بأن ذلك إنما يتحقق
في الأذهان، لا في الأعيان، فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم، كابن سينا ، أن يثبت أمر النبوات على
أصولهم الفاسدة، زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة، من اتصف بها فهو نبي:
ا-
أن تكون له قوة علمية، يسمونها القوة القدسية، ينال بها العلم بلا تعلم.
2-
وأن يكون له قوة تخيلية، تخيل له ما يعقل في نفسه، بحيث يرى في نفسه صورا، أو يسمع
في نفسه أصواتا، كما يراه النائم ويسمعه، ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن
تلك الصور هي ملائكة الله، وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى.
3-
وأن يكون له قوة فعالة، يؤثر بها في هيولى العالم، وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات
الأولياء، وخوارق السحرة، هي (من) قوى الأنفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم، من
قلب العصا حية دون انشقاق القمر ونحو ذلك، فإنهم ينكرون وجود هذا.
وقد
بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وأن هذا الذي
جعلوه من خصائص النبي، يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة، ولأتباع الأنبياء، وأن
الملائكة التي أخبرت بها الرسل، أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله، وهم كثيرون، كما
قال تعالى: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " وليسوا عشرة، ولسوا أعراضا، لا
سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول، وعنه صدر كل ما دونه، والعقل
الفعال العاشر، رب كل ما تحت فلك القمر.
وهذا
كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحج من الملائكة مبدع لكل ما سوى
الله. وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى: " إن أول ما خلق الله
العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، فقال
له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك. فبك آخذ، وبك أعطي، ولك
الثواب وعليك العقاب " ويسمونه أيضا القلم لما روي " إن أول ما خلق الله
القلم " الحديث رواه الترمذي .
والحديث
الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي ، و الدارقطني ، و ابن الجوزي ، وغيرهم. وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد
عليها. ومع هذا فلفظه لو كان ثابتا حجة عليهم، فإن لفظة " أول ما خلق الله
تعالى العقل " قال:- ويروى- " لما خلق الله العقل قال له.. "،
فمعنى الحديث: أنه خاطبه في أول أوقات خلقه، وليس معناه أنه أول المخلوقات (وأول)
منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر(لما) وتمام الحديث " ما خلقت خلقا أكرم
علي منك " فهذا يقتضي أنه خلق قبل غيره، ثم قال: " فبك آخذ، وبك أعطي،
ولك الثواب، وعليك العقاب " فذكر اربعة أنواع من الأعراض وعندهم ان جميع جواهر
العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل. فأين هذا من هذا؟
وسبب
غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن
العقل في لغة المسلمين مصدر عقل
يعقل عقلا، كما في القرآن
" وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " " إن في
ذلك لآيات لقوم يعقلون " " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون
بها أو آذان يسمعون بها " ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في
الإنسان يعقل بها.
وأما أولئك، فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه
كالعاقل، وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم
الأجسام: العقل والنفوس، فيسميها عالم الأمر، وقد يسمي ( العقل) عالم الجبروت (
والنفوس عالم الملكوت،) و( الأجسام) عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغه الرسل ولم
يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت
موافق لهذا، وليس الأمر كذلك.
وهؤلاء
يلبسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفلك محدث، أي معلول، مع أنه قديم
عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد
أنه يسمى القديم الأزلي: محدثا،
والله قد أخبر أنه خالق كل شيء. وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن،
لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر
به الرسول، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للاسلام نصروا، ولا للأعداء كسروا،
وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة فصار
قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما قد بسط في
غير هذا الموضع.
ما
بناه ابن عربي على فساد الفلاسفة من وهم، وما اجترحه من خلط في أمر النبوة
وهؤلاء
المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم،
والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا
أنهم أولياء الله، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله ، وأنهم يأخذون عن الله
بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات و الفصوص . فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي
أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل، والملك هو الخيال،
والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال، والرسول يأخذ عن
الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه، ولم يكن هو
من جنسة، فضلا عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه، يحصل لآحاد المؤمنين؟! والنبوة
أمر وراء ذلك، فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم
من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من
مشايخ أهل الكتاب والسنة، كالفضيل
بن عياض ، و إبراهيم بن أدهم ، و
أبي سليمان الداراني ، و معروف
الكرخي ، و الجنيد ابن محمد ،
و سهل بن عبد الله التستري ،
وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين.
والله
سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء، كقوله تعالى:
" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم
وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله
من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " وقال تعالى: " وكم من ملك
في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى "
وقال تعالى: " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في
السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع
الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " وقال تعالى: " وله من في السماوات والأرض
ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون
".
وقد
أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم
بشرا سويا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية
الكلبي، وفي صورة أعرابي، ويراه الناس كذلك.
وقد
وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة " عند ذي العرش مكين * مطاع ثم
أمين ". وأن محمدا صلى الله عليه وسلم " رآه بالأفق المبين " ووصفه
بأنه " شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى *
فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى *
أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى
* إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى
".
وقد
ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين، يعني المرة
الأولى بالأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى. ووصف جبريل عليه السلام
في موضع آخر بأن الروح الأمين، وأنه روح القدس، إلى غير ذلك من الصفات التي تبين
أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء والعقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه، ليس
خيالا في نفس النبي، كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة، والمدعون ولاية الله وأنهم
أعلم من الأنبياء.
وغاية
حقيقة هؤلاء إنكار أصول الأيمان، بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر. وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق.
وقالوا:
الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك
في مسمى الوجود، كما تشترك الأناسي في مسمى الانسان، والحيوانات في مسمى الحيوان.
ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية
القائمة بهذا الانسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفرس، ووجود السماوات ليس هو
بعينه وجود الانسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته.
وحقيقة قولهم، قول فرعون الذي عطل الصانع،
فإنه لم يكن منكرا هذا الموجود والمشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه، لا صانع له،
وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله، فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا
هو أظهر فسادا منهم، ولهذا جعلوا عباد الاصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا: لما كان
فرعون في منصب التحكم صاحب السيف - وإن جاز في العرف الناموس - لذلك قال: أنا ربكم
الأعلى - أي وأن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر
من الحكم فيكم.
قالوا:
ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله، أقروا له بذلك وقالوا: " اقض ما أنت
قاض إنما تقضي هذه الحياة " قالوا: فصح قول فرعون: " أنا ربكم الأعلى
".
وكان
فرعون عين الحق، ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر، فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم
أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر، وبملائكته وكتبه ورسله، مع دعواهم
أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء وأن الأنبياء
إنما يعرفون الله من مشكاتهم.
وليس
هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله، والفرق بين أولياء
الرحمن وأولياء الشيطان، وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاء لولاية الله، وهم أعظم
الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك، ولهذا عامة كلامهم، إنما هو في الحالات
الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب
الفتوحات ( باب أرض الحقيقة
) ويقولون: هي أرض الخيال.
فتعرف
بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، ومحل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل
للأنسان الأمور بخلاف ما هي.
قال
تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم
عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد
المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون "
وقال تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك
بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " إلى قوله: " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم
الشيطان إلا غرورا " وقال تعالى: " وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله
وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت
بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " وقال تعالى: " وإذ زين
لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت
الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله
شديد العقاب ".
وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أنه رأى جبريل يزع الملائكة، والشياطين إذا رأت ملائكة الله
التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته.
قال
تعالى: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " وقال
تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا
عليهم ريحا وجنودا لم تروها " وقال تعالى: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن
الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها " وقال تعالى: "
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى
إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
".
وهؤلاء
تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين، فيظنونها ملائكة، كالأرواح التي
تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام.
وكان
من أول ما ظهر من هؤلاء في الاسلام: المختار ابن أبي عبيدالذي أخبر به النبي صلى
الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سيكون في ثقيف كذاب ومبير " وكان
الكذاب: المختار ابن أبي عبيد،
والمبير: الحجاج بن يوسف فقيل لابن عمر وابن عباس إن المختار يزعم
أنه ينزل إليه، فقالا: صدق قال تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين *
تنزل على كل أفاك أثيم ".
وقال الآخر: وقيل له: إن المختار يزعم أنه
يوحي إليه، فقال: قال الله تعالى: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم
ليجادلوكم ".
وهذه
الأرواح الشيطانية، هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه
ألقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين، وشيء معين، وهذه
مما تتفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء.
وإنما
هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عددا، ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى
مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق، تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم
من كاتت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس أو لعطاء يعطونه إذا دلهم على
سرقاتهم ونحوذلك.
ولما
كانت أحوال هؤلاء شيطانية، كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم،
كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات
المكية و الفصوص .
وأشباه
ذلك يمدح الكفار، مصل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، وينتقص الأنبياء، كنوح وإبراهيم
وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين، كالجنيد بن محمد ، وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهما. ويمدح المذمومين عند
المسلمين، كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية.
عقيدته
في القديم والمحدث
فإن الجنيد - قدس الله روحه - كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال:
التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين
الخالق والمخلوق.
وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له: يا جنيد ! هل يميز بين المحدث
والقديم إلا من يكون غيرهما؟ فخطأ
الجنيد في قوله: إفراد
الحدوث عن القدم، لأن قوله هو: إن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قاله في فصوصه : ومن أسمائه الحسنى: (العلي) على
من؟ وما ثم إلا هو. وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات،
فالمسمى محدثات، هي العلية لذاتها، وليست إلا هو... إلى أن قال:
هو
عين ما بطن، وهو عين ماظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو
المسمى أبو سعيد الخراز ، وغير ذلك
من الأسماء المحدثات.
فيقال
لهذا الملحد: ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما،
فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالثا، فالعبد يعرف أنه عبد،
ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم
أنه ربهم، وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن غير غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند
المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا.
وأما
هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه
التلمساني منهم، وهو أحذقهم
في اتحادهم - لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له: فإذا
كان الوجود واحدا، فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما؟ فقال: الكل عندنا حلال،
ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
وهذا
مع كفره العظيم متناقض ظاهر، فإن الوجود إذا كان واحدا، فمن المحجوب ومن الحاجب؟
ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده : من
قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب. فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب؟ قالوا لآخر: هذه مظاهر. فقال لهم:
المظاهر غير المظاهر، أم هي؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة، وإن كانت إياها فلا
فرق.
وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في
موضع آخر، وبينا حقيقة قول كل واحد منهم، وإن صاحب الفصوص يقول:
المعدوم شيء، ووجود الحق فاض عليهما، فيفرق بين الوجود والثبوت.
والمعتزلة
الذين قالوا: المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه، فإن أولئك قالوا: إن
الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين
وجود الرب فاض عليه، فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه الدرالقونوي يفرق بين المطلق والمعين، لأنه كان أقرب
إلى الفلسفة، فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق، وصنف مفتاح
غيب الجمع والوجود.
القول
في تعطيلهم الخالق القول في تعميم الألوهية
وهذا
القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الأطلاق، وهو الكلي العقلي، لا
يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط، وهو الكلي الطبيعي. وإن قيل:
إنه موجود في الخارج، فلا يوجد إلى معينا، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته
في الخارج، فيلزم أن يكون وجود الرب، إما منتفيا في الخارج، وإما أن يكون جزءا من
وجود المخلوقات، وإما أن يكون عين وجود المخلوقات. وله يخلق الجزء الكل أم يخلق
الشيء نفسه؟ أم العدم يخلق الوجود؟ أو يكون بعض الشيء خالقا لجميعه؟
وهؤلاء
يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالا ومحلا، ومن لفظ الاتحاد، لأنه يقتضي شيئين
اتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحد ويقولون: النصارى إنما كفروا لما خصصوا
المسيح بأنه هو الله، ولو عمموا لما كفروا.
وكذلك
يقولون في عباد الأصنام: إنما أخطأوا لما عبدوا بعض الظاهر دون بعض، فلو عبدوا
الجميع لما أخطأوا عندهم، والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام.
وهذا
ما فيه من الكفر العظيم، ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض لأنه يقال لهم:فمن
المخطىء؟ لكنهم يقولون: إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التبي يوصف بها المخلوق،
ويقولون: إن المخلوقات يوصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق ويقولون ما قاله
صاحب الفصوص : فالعلي لنفسه هو الذي
يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت
محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا، أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى
الله خاصة. وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض، فإنه معلوم بالحس والعقل أن
هذا ليس هو ذاك، وهؤلاء يقولون ماكان يقوله
التلمساني إنه ثبت عندنا في
الكشف ما يناقض صريح العقل. ويقولون من أراد التحقيق - يعني تحقيقهم - فيترك العقل
والشرع.
وقد
قلت لمن خاطبته منهم: ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق
من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن
معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع، فيخبرون بمجازات العقول لا بمحالات
العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول، ويمتنع أن يتعارض
دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا،
فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل؟!.
وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب، لكم يخيل لهم
أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج
لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين.
تقديمهم
الأولياء على الأنبياء وقولهم بعدم انقطاع النبوة
وهؤلاء
الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم
تنقطع.
كما
يذكر عن ابن سبعين وغيره، ويجعلون المراتب ثلاثة: يقولون:
العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية، والشهود
الأول هو الشهود الصحيح، وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي، وأما الشهود الثاني،
فيريدون به شهود القدر، كما أن بعض هؤلاء يقول: أنا كافر برب يعصى، وهذا يزعم أن
المعصية: مخالفة الإرادة التي هي المشيئة، والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة،
ويقول شاعرهم:
ومعلوم
أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فإن المعصية التي يستحق صاحبها
الذم والعقاب، مخالفة أمر الله ورسوله، كما قال تعالى: " تلك حدود الله ومن
يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
* ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين "
وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، والأمر الكوني والديني وكانت هذه
المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبينها الجنيد رحمه
الله لهم، فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل،
لأنهم تكلموا بأن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته وفي شهود هذا التوحيد، وهذا
يسمونه الجمع الأول فبين لهم
الجنيد أنه لا بد من شهود
الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته
وخلقه، يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكره ويسخطه،
ويفرق بين أوليائه وأعدائه، كما قال تعالى: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما
لكم كيف تحكمون ". وقال تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات
كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " وقال تعالى: " أم حسب
الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم
ومماتهم ساء ما يحكمون ".وقال تعالى: " وما يستوي الأعمى والبصير والذين
آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون ".
ولهذا
كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان، وما لم
يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية وهو لايحب
الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو
لا يحبها، ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم.
وأما
المرتبة الثالثة: أن لا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن
هذا غاية التحقيق والولاية لله، وهو في الحقيقة غاية الالحاد في أسماء الله
وآياته، وغاية العداوة لله، فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار
أولياء، وقد قال تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ولا يتبرأ من
الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى: " قد كانت
لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون
من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله
وحده "، وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين: " أفرأيتم ما كنتم
تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ".
وقال
تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله
ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
وأيدهم بروح منه "، وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه، مثل قصيدة ابن الفارض المسماة: بنظم السلوك
، يقول فيها:
لها صلواتي في المقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى
أن قال:
ما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي صلت
إلي رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علي استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد
ويقول:
إن كان
منزلتي في الحب عندكم
ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام
فإنه
كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين بطلان ما كان يظنه،
وقال الله تعالى: " سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "،
فجميع ما في السماوات والأرض يسبح لله، ليس هو الله، ثم قال تعالى: " له ملك
السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير * هو الأول والآخر والظاهر
والباطن وهو بكل شيء عليم ".
وفي صحيح مسلم "عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه:اللهم
رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل
التوراة والانجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس
قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء. وأنت الباطن فليس
دونك شيء. اقض عني الدين، وأغنني من الفقر ".
ثم
قال تعالى: " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم
أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " فذكر أن السماوات والأرض، وفي موضع آخر:
" وما بينهما " مخلوق مسبح له، وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء.
وأما
قوله: " وهو معكم " فلفظ " مع " لا تقتضي في لغة العرب أن
يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر، كقوله تعالى: " اتقوا الله وكونوا مع
الصادقين"، وقوله تعالى: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار
"، وقوله تعالى: " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك
منكم "، ولفظ " مع " جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه
الآية وفي آية المجادلة: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا
أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء
عليم "، فافتتح الكلام بالعلم، وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس و الضحاك و
سفيان الثوري و أحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه.
وأما
المعية الخاصة، ففي قوله تعالى: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
"، وقوله تعالى لموسى: " إنني معكما أسمع وأرى "، وقال تعالى: " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن
الله معنا " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، فهو مع
موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين
اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين.
فلو
كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان، تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى
أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك، وقوله تعالى: " وهو الذي في السماء
إله وفي الأرض إله " أي هو إله من في السماوات وإله من في الأرض كما قال
تعالى: " وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "،
وكذلك قوله تعالى: " وهو الله في السماوات وفي الأرض "، كما فسره أئمة
العلم، كـ الإمام أحمد وغيره: أنه المعبود في السماوات والأرض.
القول
في الصفات، ليس كمثله شيء
وأجمع
سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه،
وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا
تمثيل، يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء، ولا كقوله، في
شيء من صفات الكمال، كما قال الله تعالى: " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم
يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ". وقال ابن عباس : الصمد: العليم
الذي كمل في علمه، والعظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم
الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده.
وقال ابن مسعود وغيره: هو الذي لا جوف له. والأحد: الذي لا نظير له. فاسمه (
الصمد ) يتضمن اتصافه بصفات الكمال، ونفي النقائص عنه، واسمه ( الأحد ) يتضمن
اتصافه أنه لا مثل له.
وقد
بسطنا الكلام على تفسير ذلك في هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن.
وكثير
من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الايمانية بالحقائق الخلقية القدرية
الكونية، فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، كما قال تعالى: " إن ربكم
الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار
يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله
رب العالمين "، فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب
سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون، فبقضائه
وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته
ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والاخلاص.
ونهى
عن الاشراك بالله، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك. قال الله تعالى:
" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، وقال تعالى:
" ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد
حبا لله ".
وفي
الصحيحين "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو
خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني
بحليلة جارك "، فأنزل الله تصديق ذلك: " والذين لا يدعون مع الله إلها
آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما *
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد
فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان
الله غفورا رحيما ".
وأمر سبحانه بالعدل والاحسان وإيتاء ذي
القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين،
ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا
كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهى عنه، كما قال في سورة ( سبحان ): " كل
ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ".
وقد
نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق، ونهى عن التبذير، وعن
التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس
بغير الحق، وعن الزنا، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. إلى أن قال:
" كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ".
وهو
سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى
دائما قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون
".
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيها الناس توبوا
إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين
مرة ".
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه ليغان على قلبي
وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ".
وفي السنن عن ابن عمر قال: " كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم
في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة
". أو قال:" أكثر من مائة مرة ".
وقد
أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار، " فكان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا
الجلال والإكرام ".
كما
ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى: " والمستغفرين بالأسحار "
فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار.
وكذلك
ختم سورة ( المزمل ) وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى: " واستغفروا الله إن
الله غفور رحيم ".
وكذلك
قال في ( الحج ): " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام
واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله
لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
".
بل
أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي
آخر غزواته: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في
ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم *
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم
" وهي من آخر ما نزل من القرآن.
وقد
قيل: إن آخر سورة نزلت قوله تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس
يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فأمره
الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم " كان
يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي - يتأول القرآن
".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه " كان يقول: اللهم اغفر لي
خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي،
وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسرت وما أعلنت،
لا إله إلا أنت ".
وفي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه قال: " يا رسول الله علمني دعاء
أدعوا به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا
أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ".
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: " يا رسول الله! علمني دعاء
أدعوا به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب
والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر
الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا
أمسيت، وإذا إخذت مضجعك ".
فليس
لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب، بل كل أحد محتاج
إلى ذلك دائما قال الله تبارك وتعالى: " وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
* ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين
والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ".
فالإنسان
ظالم جاهل، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبته
عباده الصالحين ومغفرته لهم.
وثبت
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ". وهذا لا ينافي قوله: "
كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية "، فإن الرسول صلى الله
عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب.
وقول
من قال: إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب، معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة
والأستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها، فهو ضال
مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره.
وإنما
عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله:" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين
الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا
أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما
فعلوا وهم يعلمون ".
ومن
ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم:
" سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء
". قال الله تعالى ردا عليهم: " كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا
بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون *
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ".
ولو
كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل، كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات،
وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان
متبعا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم
والعقاب، فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوي عنده ما يوجب
اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا، وهذا
ممتنع طبعا وعقلا وشرعا. وقد قال تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار "، وقال تعالى: "
أفنجعل المسلمين كالمجرمين "وقال تعالى: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات
أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون
"، وقال تعالى: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون
"، وقال تعالى: " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " أي مهملا لا يؤمر
ولا ينهى.
وقد
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ
فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى
الذي اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده؟ فبكم وجدت مكتوبا علي قبل أن
أخلق: " وعصى آدم ربه فغوى "؟ قال: بأربعين سنة؟ قال: فلم تلومني على
أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: فحج آدم موسى " أي غلبه
بالحجة.
وهذا
الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت له لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن
عصى الله لأجل القدر، وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة. وقد يقولون القدر حجة لأهل
الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا، ومن الناس من قال: إنما حج
آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى،
أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل.
ولكن
وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل
أكله من الشجرة، فقال له: لما أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ لم يلمه لمجرد كونه أذنب
ذنبا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وقد تاب منه أيضا، ولو
كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم
تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ".
والمؤمن
مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى:
" فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك "، فأمره بالصبر على المصائب،
والاستغفار من المعائب.
وقال
تعالى: " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه ".
قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فالمؤمنون
إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل، صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب
غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبروا لما
أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم، ذكر لهم القدر.
الرضى
بحكم الله أعلى مرتبة من الصبر
والصبر
واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضى بحكم الله، والرضى قد قيل:إنه واجب،
وقيل: هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من
إنعام الله عليه بها، جعلها سببا لتكفير خطاياه، ورفع درجته، وإنابته إلى الله
وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين.
وأما
أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون
الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة
قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وأهل
الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة، شهدوا أنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم
عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة
إلا به، فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله
وتابوا إليه منها.
ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأن عبدك وأنا
على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء
بذنبي، فاغفر لي فأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات
من ليلته دخل الجنة ".
حديث: يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي..
وفي
الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " فيما
يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم
محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا
ولا أبالي، فاستغفروا أغفر لكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني
أطعمكم.
يا
عبادي كلكم عار ألا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي كلكم ضال إلا من هيدته
فاستهدوني أهدكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما
زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر
قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي
إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة. يا عبادي إنما هي أعمالكم
أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن
إلا نفسه ".
فأمر
سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير وأنه إذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه.
وكثير
من الناس يتكلم بلسان الحقيقة، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة
بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته، ولا يفرق بين
من يقوم بالحقيقة الدينية موافقا لما أمر الله به على ألسن رسله، ولا يفرق بين من
يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ الشريعة يتكلم به كثير
من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي
بعث الله به رسوله، فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا
كافر، وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم، فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطىء. هذا إذا كان
عالما عادلا.
وإلا
ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو
في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو في
النار ".
وأفضل
القضاء العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت عنه
في الصحيحين أنه قال: " إنكم تختصمون إلي ولعل
بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه
شيئا فلا يأخذه، فإ،ما أقطع به قطعة من النار ".
فقد
أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن يخلاف ذلك، لم يجز
للمقضي له أن يأخذ ما قضي به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار.
وهذا
متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة. إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية
كالبينة والاقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضي به
له بالاتفاق. وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول: إن الأمر
كذلك، وهو مذهب مالك و
الشافعي و أحمد بن حنبل ، وفرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين.
فلفظ
الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم
أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى
الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فلم بتابعه باطنا وظاهرا فهو كافر.
ومن
احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر، كان غالطا من وجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن
مبعوثا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني
إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين: الجن، والأنس،
ولو أدركه من هو أفضل من الخضر، كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه، فكيف
بالخضر سواء كان نبيا أو وليا؟! ولهذا قال الخضر لموسى: ( أنا على علم من علم الله
علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله، لا أعلمه) وليس لأحد
من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا.
الثاني:
أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم
الأسباب التي تبيح ذلك، فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها
لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها، إحسان إليهم، وذلك جائز، وقتل الصائل جائز
وإن كان صغيرا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاء قتله.
قال
ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة
الحروري لما سأله عن قتل الغلمان، قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك
الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم، رواه
البخاري .
وأما
الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال، فلم يكن في
ذلك شيء مخالفا شرع الله.
وأما
إذا أريد بالشرع حكم الحاكم، فقد يكون ظالما، وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابا، وقد
يكون خطأ، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه،
كأبي حنيفة و الثوري ومالك بن أنس
و الأوزاعي و
الليث بن سعد و الشافعي و أحمد و
إسحاق و داود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد
غيره حيث يجوز ذلك، كان جائزا، أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة، كاتباع
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم، كما يحرم اتباع من يتكلم بغير
علم.
وأما
إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراه، أو تأول النصوص بخلاف مراد
الله، ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول،
والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما
يستدل عليها بالكتاب والسنة وبين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده.
وقد
ذكر الله في كتابه: الفرق بين الإرادة والأمر والقضاء والإذن والتحريم والبعث
والإرسال والكلام والجعل، وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه، وإن كان لم يأمر به
ولا يحبه ولا يثيب أصحابه، ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر
به وشرعه وأثاب فاعليه وأكرمهم، وجعلهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين وجنده
الغالبين، وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن
استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه، ومات على ذلك، كان من أوليائه، ومن
كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه، ومات على ذلك كان من أعدائه.
فالإرادة
الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية،
والارادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعا
ودينا.
وهذه
مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح
صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ".
وقال
نوح عليه السلام لقومه: " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله
يريد أن يغويكم "، وقال تعالى: " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له
وما لهم من دونه من وال "، وقال تعالى في الثانية: " ومن كان مريضا أو
على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ". وقال في
آية الطهارة: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم
نعمته عليكم لعلكم تشكرون ". ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال:
" يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم
حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما
* يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ".
وقال
لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهن عنه: " إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "، والمعنى أنه أمركم
بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أذهب
عنه الرجس، بخلاف من عصاه.
وأما
الأمر، فقال في الأمر الكوني: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن
فيكون "، وقال تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر "، وقال
تعالى: " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس
".
وأما
الأمر الديني فال تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ". وقال تعالى: "
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا "
وأما
الإذن، فقال في الكوني لما ذكر السحر: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن
الله " أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل.
وقال
في الإذن الديني: " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله
" وقال تعالى: " إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله
بإذنه "، وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله "،
وقال تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله
" وأما القضاء فقال في الكوني: " فقضاهن سبع سماوات في يومين "،
وقال سبحانه: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ".
وقال
في الديني: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " أي أمر، وليس المراد به:
قدر ذلك، فإنه قد عبد غيره، كما أخبر في غير موضع، كقوله تعالى: " ويعبدون من
دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ".
وقال
الخليل عليه السلام لقومه: " أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون
* فإنهم عدو لي إلا رب العالمين "، وقال تعالى: " قد كانت لكم أسوة حسنة
في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله
كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول
إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء " وقال تعالى: "
قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا
عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين ". وهذه كلمة
تقتضي براءته من دينهم، ولا تقتضي رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى:
" وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما
تعملون ".
ومن
ظن من الملاحدة أن هذا رضى منه بدين الكفار، فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن
قوله: " وقضى ربك " بمعنى قدر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع،
وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب.
وأما
لفظ البعث، فقال تعالى في البعث الكوني: " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم
عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ".
وقال
في البعث الديني: " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " وقال تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة
رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ".
وأما
لفظ الإرسال فقال في الإرسال الكوني: " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين
تؤزهم أزا " وقال تعالى:" وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته
".
وقال
في الديني: " إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " وقال تعالى: " إنا
أرسلنا نوحا إلى قومه " وقال تعالى: " إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا
عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا " وقال تعالى: " الله يصطفي من
الملائكة رسلا ومن الناس ".
وأما
لفظ الجعل فقال في الكوني " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ".
وقال
في الديني: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " وقال تعالى: " ما جعل
الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ".
وأما
لفظ التحريم، فقال في الكوني: " وحرمنا عليه المراضع من قبل " وقال
تعالى: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ".
وقال
في الديني: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
" وقال تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم
وبنات الأخ وبنات الأخت " الآية.
وأما
لفظ الكلمات، فقال في الكلمات الكونية: " وصدقت بكلمات ربها وكتبه ".
وثبت
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه " كان يقول: أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق، ومن غضبه
وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ". وقال صلى الله عليه
وسلم: " من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره
شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ". وكان يقول: " أعوذ بكلمات الله التامات
التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر
فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارقا يطرق بخير يارحمن ".
وكلمات
الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، هي التي كون بها الكائنات، فلا يخرج بر
ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته وأما كلماته الدينية، وهي كتبه المنزلة وما
فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار، وعصاها الفجار.
تعريف
أولياء الله المتقين واعدائه
وأولياء
الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية، وجعله الديني، وإذنه الديني، وإرادته
الدينية.
وأما
كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فإنه يدخل تحتها جميع الخلق، حتى إبليس
وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق
والمشيئة والقدرة والقدر لهم، فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضى والغضب.
وأولياء
الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم
وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه.
وأعداؤه
أولياء الشياطين، وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم ويلعنهم ويعادلهم.
وبسط
هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع الفرق بين أولياء الرحمن
وأولياء الشيطان، وجمع الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء، وأعدائه الأشقياء،
وبين أوليائه أهل الجنة، وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد، وبين
أعدائه أهل الغي والضلال والفساد، وأعدائه حزب الشيطان، وأوليائه الذين كتب في
قولبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه قال تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية، وقال تعالى: " إذ يوحي
ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ".
وقال
في أعدائه: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " وقال:
" وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف
القول غرورا "، وقال: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل
أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم
في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
".
وقال
تعالى: " فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو
بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب
العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه
الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين * وإنه لتذكرة للمتقين * وإنا لنعلم أن منكم
مكذبين * وإنه لحسرة على الكافرين * وإنه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم
"، وقال تعالى: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون "، إلى
قوله: " إن كانوا صادقين ".
فنزه
سبحانه وتعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان
والشعراء والمجانين، وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه. وقال تعالى:
" الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس "، وقال تعالى: " وإنه
لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان
عربي مبين " وقال تعالى: " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك
بإذن الله " الاية، وقال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم " إلى قوله: " وبشرى للمسلمين "، فسماه الروح
الأمين وسماه روح القدس، وقال تعالى: " فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس
" يعني الكواكب التي تكون في السماء خانسة، أي مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت
رآها الناس جارية في السماء فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها " والليل
إذا عسعس " أي إذا أدبر وأقبل الصبح " والصبح إذا تنفس " أي أقبل
" إنه لقول رسول كريم " وهو جبريل عليه السلام " ذي قوة عند ذي
العرش مكين * مطاع ثم أمين " أي مطاع في السماء أمين، ثم قال: " وما
صاحبكم بمجنون " أي صاحبكم الذي من الله عليكم به، إذ بعثه إليكم رسولا من
جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة، كما قال تعالى: " وقالوا
لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا
لجعلناه رجلا " الآية. وقال تعالى: " ولقد رآه بالأفق المبين " أي
رأى جبريل عليه السلام " وما هو على الغيب بضنين " أي بمتهم، وفي
القراءة الأخرى " بضنين " أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله الإ بجعل، كما
يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض " وما هو بقول شيطان رجيم " فنزه جبريل
عليه السلام عن أن يكون شيطانا، كما نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون
شاعرا أو كاهنا.
فأولياء
الله المتقدون بمحمد صلىالله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر به، وينتهون عما عنه زجر،
ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في
قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين وخيار أولياء
الله، كراماتهم لحجة في الدين، أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى
الله عليه وسلم كذلك.
وكرامات
أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. فهي في الحقيقة تدخل
في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
مثل
انشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره
ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز،
وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم
ينقص، في حديث أم سليم المشهور، وروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص،
وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفا ونبع
الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتىكفى الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة
الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده
فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله
فمسحها فبرأت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة، وجعل منها
قصعتين فأكلوا منهما جميعهم، ثم فضل فضله. وقضى ( دين) عبدالله أبي جابر لليهودي
وهو ثلاثون وسقا.
قال
جابر: فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل، فمشى فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لجابر: جد له، فوفاه الثلاثين وسقا، وفضل سبعة
عشر وسقا ومثل هذا كثير، قد جمعت نحو ألف معجزة.
وكرامات
الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا، مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ
سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج، وهي الملائكة نزلت لقرائته
وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين، وكان سلمان و أبو الدرداء يأكلان في صحفة،
فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها. و"عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا،
افترق الضوء معهما" رواه البخاري وغيره.
وقصة
الصديق في الصحيحين " لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة
إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك. فنظر إليها أبو
بكر وامرأته، فإذا هي أكثر مماكانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا ".
وخبيب بن عدي كان أسيرا عند المشركين
بمكة شرفها الله تعالى، وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة .
وعامر بن فهيرة قتل شهيدا، فالتمسوا جسده
فلم يقدروا عليه، وكان لما كان قتل رفع، فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع. وقال عروة:
فيرون الملائكة رفعته .
وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا
ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة، سمعت حسا على رأسها،
فرفعته فإذا دلو معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها .
" وسفينة مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معه الأسد حتى
أوصله مقصده ".
والبراء
بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتدت على المسلمين
في الجهاد يقولون: يا براء! أقسم على ربك، فيقول: يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا
أكتافهم، فيهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا
أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا .وخالد بن الوليد
حاصر حصنا منيعا، فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم، فشربه فلم يضره.
وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة، ما
دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق .
وعمر
بن الخطاب لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى سارية، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح
على المنبر: يا سارية! الجبل، يا سارية الجبل الجبل، فقدم رسول الجيش فسأله، فقال
يا أمير المؤمنين! لقيننا عدونا فهزمونا فإذا بصائح: يا سارية الجبل، يا سارية
الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله .
ولما عذبت الزنيرة على الاسلام في الله،
فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها،قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى، قالت: كلا
والله، فرد الله عليها بصرها .
ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم
فأعمى بصرها لما كذبت عليه، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في
أرضها فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت .
والعلاء
بن الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في
دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم، فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا
ويتوضؤوا،لما عدموا الماء، والإسقاء لما بعدهم، فأجيب. ودعا الله لما اعترضهم
البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم،
ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد، وجرى مثل ذلك لأبي مسلم
الخولاني الذي ألقي في النار، فإنه مشى هو ومن معه من المعسكر على دجلة، وهي ترمي
بالخشب من مدها، ثم التفت إلى أصحابه فقال: تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز
وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة، فقال: اتبعني، فتبعته فوجدها قد تعلقت بشيء
فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال:
ما أسمع، قال: أتشهد أن محمد رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار فألقي فيها، فوجدوه
قائما يصلي فيها، وقد صارت عليه بردا وسلاما.
وقدم
المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق
رضي الله عنهما، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه
وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، ووضعت له جاريته السم في طعامه فلم
يضره، وخببت امرأة عليه زوجته، فدعا عليها فعميت وجاءت وتابت، فدعا لها فرد الله
عليها بصرها.
وكان
عمر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، ومايلقاه سائل في طريقه ألا أعطاه
بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها. ومر بقافلة قد حبسهم الأسد،
فجاء حتى مس بثيابه الأسد، ثم وضع رجله على عنقه وقال: إنما أنت كلب من كلاب
الرحمن،وإني أستحيي من الله أن أخاف شيئا غيره، ومرت القافلة، ودعا الله تعالى أن
يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من
الشيطان وهو في الصلاة، فلم يقدر عليه.
وتغيب الحسن البصري عن الحجاج، فدخلوا عليه ست مرات فدعا
الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج - كان يؤذيهم - فخر ميتا.
وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو،
فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة. ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل
إلى بيته قال: يا بني خذ سرج الفرس فانه عارية، وأخذ سرجه فمات الفرس. وجاع مرة
بالأهواز، فدعا الله عز وجل استطعمه، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل
التمر، وبقي الثوب عند زوجته زمانا. وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضه بالليل، فلما
سلم قال له: اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير.
وكانسعيد ين المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم في أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا، فلم يبقى غيره.
ورجل
من النخع كان له حمار فمات في الطريق، فقال له أصحابه: هلم نتوزع متاعك على
رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة، ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، ودعا الله
تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه.
ولما
مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرا محفورا فيه
لحد في صخرة، فدفنوه فيه وكفنوه، في تلك الأثواب.
وكان عمرو بن عقبة بن فرقد يصلي يوما في شدة الحر فأظلته غمامة وكان
السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه، لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه
يخدمهم.
وكان مطرف بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته، وكان هو
وصاحب له يسيران في ظلمة، فأضاء لهما طرف السوط.
ولما
مات الأحنف بن قيس، وقعت قلنسوة رجل في قبره، فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه
مد البصر.
وكان إبراهيم التميمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا، وخرج
يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها، ثم رجع إلى أهله
ففتحها فإذا هي حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها
حبا متراكبا.
وكان
عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال: صوتا حسنا، ودمعا غزيرا، وطعاما من غير تكلف. فكان
إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا
يدري من أين يأتيه.
وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج، فسأل ربه أن يطلق له
أعضاءه وقت الوضوء، فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاءه ثم تعود بعدها.
وهذا
باب واسع. ( و) قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع.
وأما
ما نعرفه نحن عيانا ونعرفه في هذا الزمان فكثير، ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات
قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الايمان أو المحتاج، أتاه منها
ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا
يأتيه مثل ذلك، لعلو درجته وغناه عنها، لنقص ولايته. ولهذا كانت هذه الأمور في
التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق
ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة.
وهذا
بخلاف الأحوال الشيطانية، مثل حال
عبد الله بن صياد الذي ظهر
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي
صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من
جنس الكهان. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " قد خبأت لك خبأ، قال: الدخ
الدخ. وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إخسأ فلن
تعدو قدرك " يعني إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين
من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق
بالكذب كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري
وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الملائكة تنزل في العنان
- وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى
الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ".
وفي
الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "
بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ماكنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟
قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنه
لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبح حملة
العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل
هذه السماء، ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: ماذا قال ربنا؟ فيخبرونهم، ثم
يستخير أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا. وتخطف الشياطين السمع
فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون
".
وفي
رواية، قال معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنها غلظت
حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
والأسود
العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما
قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم
عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.
وكذلك
مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور.
وأمثال
هؤلاء كثيرون، مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى
النبوة، وكانت الشياطين تخرج رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح
الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء ويقول:
هي الملائكة، وإنما كانوا جنا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح
فلم ينفذ فيه. فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله فسمى الله فطعنه فقتله.
وهكذا
أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها، مثل آية
الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي
هريرة رضي الله عنه " لما وكله
النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما
فعل أسيرك البارحة؟ فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: كذبك وأنه سيعود فلما كان في
المرة الثالثة، قال: دعني حتى أعلمك
ما ينفعك: إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي: " الله لا إله إلا هو الحي
القيوم " إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى
تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقك وهو كذوب وأخبره أنه شيطان
".
ولهذا
إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال
شيطاني، أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما
لا يعلم، وربما لا يفقه.
وربما
كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة، كما يتكلم الجني على
لسان المصروع. والانسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي
يتخبطه الشيطان من المس ولبسه وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال.
ولهذا
قد يضرب المصروع ( ضربا كثيرا حتى قد يقتل مثله الإنسي أو يمرضه لو كان هو
المضروب) وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء، لأن
الضرب كان على الجني الذي لبسه.
ومن
هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع،
ومنهم من يطير به الجني إلى مكة، أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحملهم عشية
عرفة، ثم يعيده من ليلته، فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه، ولا يحرم إذا حاذى
الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا
والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه، ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج (
مشروع باتفاق المسلمين، بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء وإلى غير القبلة،
ومن هؤلاء المحمولين، من حمل مرة إلى عرفات ورجع فرأى في النوم ملائكة يكتبون
الحجاج) فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج. يعني لم تحج حجا شرعيا.
وبين
كرامات الأولياء، وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة: منها، أن
كرامات الأولياء سببها الايمان والتقوى، والأحوال الشيطانية، سببها ما نهى الله
عنه ورسوله.
وقد
قال تعالى: " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي
بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا
تعلمون " فالقول على الله بغير علم، والشرك والظلم والفواحش، قد حرمها الله
تعالى ورسوله. فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا
تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان، وبالأمور التي فيها
شرك، كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش.
فهي
من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية.
ومن
هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء
ويخرجه من تلك الدار، فإذا حضر رجل من أولياء الله تعالى، طرد شيطانه فيسقط، كما
جرى هذا لغير واحد.
ومن
هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك المخلوق مسلما أو نصرانيا أو
مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به، ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن
أنه ذلك الشخص، أو هو ملك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله،
كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم المشركين.
ومن
هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه
على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى. وكثير من
الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت، فيأتي الشيطان بعد موته على صورته،
وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق
بالميت، ويدخل إلى زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار، كما تصنع
كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا
أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني، فأن أجيء وأغسل نفسي، فلما مات رأى خادمه شخصا في
صورته، فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله، أي غسل الميت،
غاب، وكان ذلك شيطانا، وكان قد أضل الميت، وقال: إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك،
فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء، كما أغوى الميت قبل ذلك.
ومنهم
من يرى عرشا في الهواء، وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك، فإن كان من
أهل المعرفة، علم أنه شيطان فزجروه واستعاذ بالله منه، فيزول.
ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم
أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد ( وهؤلاء منهم من يرى
ذلك عند قبر الذي يزوره، فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة، فيعتقدها الميت،
وإنما هو جني تصور بتلك الصورة. ومنهم من يرى فارسا قد خرج من قبره. أو دخل في
قبره، ويكون ذلك شيطانا، وكل من قال: أنه رأى نبيا بعين رأسه فما رأى إلا خيالا).
ومنهم
من يرى في منامه أن بعض الأكابر، إما الصديق رضي الله عنه أوغيره قد قص شعره،
أوحلقه، أو ألبسه طاقيته، أو ثوبه، فيصبح وعلى رأسه طاقية، وشعره محلوق، أو مقصر،
إنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه، وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب
والسنة، وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم، والجن فيهم
الكافر والفاسق والمخطىء، فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا، دخلوا معه في
الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل
الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض
كلامه بالنجاسة، أويقلب فاتحة الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن،
ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء، وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر، وقد
يأتونه بمن يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء، وإما مدفوعا ملجأ إليه. إلى
أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها. والإيمان بها، إيمان بالجبت والطاغوت والجبت:
السحر. والطاغوت: الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا،
لم يمكنهم الدخول معه في ذلك، أو مسالمته.
ولهذا
لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله، كان عمار المساجد
أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى،
فيدعون الميت أو يدعون به، أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب - أقرب إلى الأحوال
الشيطانية.
فإنه
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وثبت
في صحيح مسلم عنه أنه " قال قبل أن يموت بخمس
ليال: إن أمن الناس علي في صحبته
وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن
صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر، أن من كان
قبلكم يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك
".
وفي
الصحيحين عنه " أنه ذكر له في
مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حسنها وتصاوير فيها، فقال: إن أولئك إذا مات
فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصورا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق
عند الله يوم القيامة ".
وفي المسند و صحيح أبي حاتم
عنه صلى الله عليه وسلم قال: " أن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم
أحياء، والذين اتخذوا القبور مساجد ".
وفي
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا
إليها ".
وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الله لا تجعل قبري
وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وفي
السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تتخذوا قبري عيدا،
وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني ".
وقال
صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه
السلام ".
وقال
صلى الله عليه وسلم: " إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام
".
وقال
صلى الله عليه وسلم: " أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن
صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ - يقولون:
بليت - فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ".
وقد
قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام: " وقالوا لا
تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا "، قال ابن عباس
وغيره من السلف: هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم،
ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان
هذا مبدأ عبادة الأوثان.
فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك كما نهى عن الصلاة
وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها
وقت الطلوع ووقت الغروب، فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا
الباب.
والشيطان
يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها كما يفعل أهل دعوة
الكواكب، فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور، ويسمون ذلك روحانية
الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الانسان على بعض مقاصده، فإنه يضره اضعاف
ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر، إلا أن يتوب الله عليه.
وكذلك
عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا
الميت أو دعا به، أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون
حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور .
وإنما
هذا وضع من فتح باب الشرك.
ويوجد
لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من
المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين، مثل أن يضعوا سراويل
عند القبر فيجدونه قد انعقد أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه يفعل
الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد
الشيطان. ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله، فسقط، ومثل أن يرى
أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان. وهذا باب واسع لا
يتسع له هذا الموضع.
ولما
كان هذا الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله،
صارت الشياطين كثيرا ما تأوي المغارات والجبال، مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون،
وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان،
وجبال بالجزيرة، وغير ذلك، وجبل
اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز، وجبل ماشكو عند
أتشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من
الصالحين من الإنس، ويسمونهم: رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال،
كما أن الإنس رجال، قال تعالى: " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من
الجن فزادوهم رهقا ".
ومن
هؤلاء من يظهر بصورة شعراني، جلده يشبه جلد الماعز، فيظن من لا يعرفه أنه إنسي،
وإنما هو جني. ويقال: بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال. وهؤلاء الذين يظنون
أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة.
وهذا
باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه، وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك
ما يطول وصفه في هذا المختصر الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء
الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك.
والناس
في خوارق العادات على ثلاثة أقسام: قسم يكذب وجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به
مجملا، وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس، لكونه عنده ليس من الأولياء، ومنهم من
يظن أن كل ما كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله وكلا الأمرين خطأ. ولهذا تجد
أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم
من أولياء الله. وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة، والصواب القول
الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم، لا من أولياء الله عز وجل، كما قال الله
تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ".
وهؤلاء
العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة، تقترن
بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض
بعضها بعضا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولابد أن
يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا، ومن الاثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة
بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين، وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين.
قال الله تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم " والأفاك:
الكذاب. والأثيم: الفاجر.
ما
يقوي الأحوال الشيطانية من السماع والمكاء والتصدية
ومن
أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية، سماع الغناء والملاهي وهو سماع المشركين. قال
الله تعالى: " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ".
قال
ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف: التصدية: التصفيق باليد،
والمكاء: مثل الصفير. فكان المشركون يتخذون هذا عبادة.
أما
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة
والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه على استماع غناء قط، لا بكف، ولا بدف، ولا تواجد، ولا سقطت بردته، بل كل
ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.
وكان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ، والباقون
يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، و"مر النبي
صلى الله بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له: مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت
أستمع لقراءتك فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا "، أي لحسنته لك
تحسينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " زينوا القرآن بأصواتكم "
وقال صلى الله عليه وسلم: " لله أشد أذنا -أي استماعا - إلى الرجل الحسن
الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى
قينته" وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود:
" إقرأ علي القرآن، فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من
غيري، فقرأت عليه سورة ( النساء)، حتى انتهيت إلى هذه الآية: " فكيف إذا جئنا
من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان من
البكاء".
ومثل
هذا السماع، هو سماع النبيين وأتباعهم، كما ذكر الله ذلك في القرآن فقال: "
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية
إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا
".
وقال
في أهل المعرفة: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع
مما عرفوا من الحق ".
ومدح
سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان، واقشعرار الجلد، ودمع
العين، فقال تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه
جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " وقال تعالى:
" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته
زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك
هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ".
وأما
السماع المحدث، سماع الكف والدف والقصب، فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان
وسائر الأكابر من أئمة الدين، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه
من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد
شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. وأولياء الله
العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصبيا وافرا. ولهذا تاب منه خيار من
حضره منهم.
ومن
كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله، كان نصيب الشيطان فيه أكثر، وهو بمنزلة
الخمر، ( بل هو) يؤثر في النفوس
اعظم من تأثير الخمر، ولهذا إذا قويت سكرة أهله، نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على
ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم، كما تحصل بين شراب
الخمر، فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه.
ويظن
الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله، وهو
من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل
المعصوم مما يكرم الله به أولياءه؟! وانما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم
الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه اليه ويرفع به
درجته، وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم، كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس
القدرة والملك، كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو من جنس الغنى، من جنس ما
يعطاه الناس في الظاهر، من العلم، والسلطان، والمال، والغنى.
وجميع
ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور، إن استعان به على ما يحبه ويرضاه، ويقربه
إليه، ويرفع درجته، ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله
ورسوله، وعلت درجته. وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله، كالشرك، والظلم،
والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات
ماحية، وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق، تارة
بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل
من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن
الاسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الاسلام،
وكثيرا منهم لا يعرف أن هذه شيطانية، بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن
منهم أن الله عز وجل، إذا أعطى عبدا خرق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله
إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا، لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على
أمور مباحة لا مأمور بها ولا منهي عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار
المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد الرسول أعلى من
النبي الملك.
ولما
كانت الخوارق كثيرا ما ينقص بها درجة الرجل، كان كثير من الصالحين يتوب من مثل
ذلك، ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب، كالزنا، والسرقة، وتعرض على بعضهم
فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها، ولا يجعلها همته،
ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم
بها؟! فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان
الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، وتقول: هنيئا لك يا ولي الله،
فيقرأ آية الكرسي، فيذهب ذلك. وأعرف من يقصد صيد الطير، فتخاطبه العصافير وغيرها،
وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها، كما يدخل في الإنس،
ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكوني في البيت وهو مغلق، فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح،
وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تريه
أنوارا، وتحضر عنده من يطلبه، ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا
قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة، ذهب ذلك كله.
وأعرف
من يخاطبه مخاطب ويقول له: أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي
صلى الله عليه وسلم، ويظهر له الخوارق، مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد
في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا وشمالا، ذهب حيث أراد، وإذا
خطر بقلبه قيام بعض المواشي، أو نومه، أو ذهابه، حصل له ما أراد من غير حركة منه
في الظاهر، وتحمله إلى مكة، وتأتي به، وتأتي بأشخاص في صورة جميلة، وتقول له هذه
الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه: كيف تصوروا بصورة المردان،
فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له: علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة،
فتنبت ويراها، وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان.
وهذا
باب واسع، لو ذكرت ما أعرف منه لاحتاج إلى مجلد كبير. وقد قال تعالى: " فأما
الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه
فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن " قال الله تبارك وتعالى:" كلا "
ولفظ ( كلا) فيها زجر وتنبيه، زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به، ويأمر
به بعده، وذلك أنه ليس كل ما حصل له نعم دنيوية تعد كرامة، يكون الله عز وجل مكرما
له لها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده
بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده،
ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه، لئلا ينقص بذلك مرتبته عنده، أو
يقع بسببها فيما يكرهه منه.
وأيضا
كرامات الأولياء لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى، فما كان سببه الكفر والفسوق
والعصيان، فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا
تحصل بالصلاة، والقراءة والذكر، وقيام الليل، والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك، مثل
دعاء الميت، والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات،كالحيات، والزنابير،
والخنافس، والدم، وغيره من النجاسات، ومثل الغناء، والرقص، لا سيما مع النسوة
الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن، وتقوى عند سماع مزامير
الشيطان، فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا، أو ينقر الصلاة نقر
الديك، وهو يبغض سماع القرآن، وينفر عنه، ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا
لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد. فهذه أحوال شيطانية،
وهو ممن يتناوله قوله تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له
قرين ".
فالقرآن
هو ذكر الرحمن، قال تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم
القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا
فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " يعني تركت العمل بها.
قال
ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله
لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا،ولا يشفى في الآخرة، ثم قرأ هذه
الآية.
ومما
يجب أن يعلم أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الانس والجن، فلم يبقى
إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فعليه أن
يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر. ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به، فهو
كافر، سواء كان إنسيا أو جنيا.
ومحمد
صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين، وقد استمعت الجن للقرآن،
وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة
لما رجع من الطائف، وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله: " وإذ صرفنا إليك نفرا
من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين *
قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى
الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم
ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه
أولياء أولئك في ضلال مبين ".
وأنزل
الله تعالى بعد ذلك: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا
قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا * وأنه تعالى جد ربنا
ما اتخذ صاحبة ولا ولدا * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا * وأنا ظننا أن لن
تقول الإنس والجن على الله كذبا * وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن
فزادوهم رهقا " أي السفينه منا في أظهر قولي العلماء.
وقال
غير واحد من السلف: كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا
الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن، ازدادت الجن طغيانا وكفرا،
كما قال تعالى: " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا
* وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا * وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت
حرسا شديدا وشهبا " وكانت الشياطين ترمى بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن
كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم، فلما بعث محمد صلى الله
عليه وسلم ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا،
كما قالوا: " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا
رصدا " وقال تعالى في الآية الأخرى: " وما تنزلت به الشياطين * وما
ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون " قالوا: " وأنا لا
ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا * وأنا منا الصالحون ومنا دون
ذلك كنا طرائق قددا " أي على مذاهب شتى، كما قال العلماء: منهم المسلم
والمشرك، واليهود والنصراني، والسني والبدعي. " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في
الأرض ولن نعجزه هربا " أخبروه أنهم لا يعجزونه، لا إن أقاموا في الأرض ولا
إن هربوا منه: " وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا
ولا رهقا * وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون " أي الظالمون.
يقال:
أقسط إذا عدل، وقسط: إذا جار وظلم " فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما
القاسطون فكانوا لجهنم حطبا * وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا *
لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا * وأن المساجد لله فلا تدعوا مع
الله أحدا * وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنما أدعو
ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من
الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا " أي ملجأ ومعاذا " إلا بلاغا من الله
ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا * حتى إذا رأوا ما
يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ".
ثم " لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود. وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وكان إذا
قال: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب،
فلك الحمد ".
"
ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه بالزاد لهم ولدوبهم، فقال: لكم كل
عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوبكم ". قال
النبي صلى الله عليه وسلم: " فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن
" وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن
الاستنجاء بذلك، وقالوا: فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم، فما أعد للإنس
ولدوبهم من الطعام والعلف أولى وأحرى.
ومحمد
صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن، وهذا أعظم قدرا عند الله تعالى من
كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد
صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله، لأنه عبد الله
ورسوله، ومنزلة العبد فوق منزلة النبي الملك.
وكفار
الجن يدخلون النار بالنص والإجماع، وأما مؤمنوهم، فجمهور العلماء على أنهم يدخلون
الجنة. وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس، ولم يبعث من الجن رسول، لكن منهم
النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود
هنا أن الجن مع الإنس على أحوال: فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به
ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك، فهذا من أفضل أولياء
الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه، ومن كان
يستعمل الجن في أمور مباحة له، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كان يأمرهم
بما يجب عليهم، وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة
الملوك الذين يفعلون مثل ذلك.
هذا
إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته أن يكون في عموم اولياء الله تعالى، مثل
النبي الملك مع العبد الرسول، كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات
الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن
كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله. إما في الشرك، وإما في قتل معصوم
الدم، أو في العدوان عليهم بغير القتل، كتمريضه وإنسائه العلم، وغير ذلك، وإما في
فاحشة، كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن
استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص، إما فاسق،
وإما مذنب غير فاسق.
وإن
لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات، مثل أن يستعين
بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج
الحج الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك،
فهذا مغرور قد مكروا به.
وكثير
من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات خوارق
للعادات، وليس عندهم من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات
الرحمانية، وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركا
يعبد الكواكب والأوثان، أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع
والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أوشيخ صالح، فيظن أنه يعبد ذلك
النبي أو الصالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان، قال الله تعالى: " ويوم
يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت
ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون "
ولهذا
كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها، فيقارنها الشيطان عند
سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون، فإن
كان نصرانيا واستغاث بجرجس أو غيره، جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به.
وإن
كان منتسبا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين، جاء في صورة
ذلك الشيخ. وإن كان من مشركي الهند، جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك.
ثم
إن الشيخ المستغاث به، إن كان ممن له خبرة بالشريعة، لم يعرفه الشيطان أنه تمثل
لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له، أخبره بأقولهم، ونقل
أقوالهم له، فيظن أولئك أن الشيخ سمع اصواتهم من البعد وأجابهم من البعد وأجابهم،
وإنما هو يتوسط الشيطان.
ولقد
أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة فقال: يريني
الجن شيئا براقا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به، قال:
فأخبر الناس به، ويوصلون إلي كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبة، فيوصلون جوابي
إليه.
الحيل
الشيطانية
وكان
كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال:
إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما يدخل النار بحجر الطلق و قشور النارنج، ودهن
الضفادع، وغير ذلك من الحيل الطبيعة، - يتعجب هؤلاء المشايخ ويقولون: نحن والله لا
نعرف شيئا من هذه الحيل. فلما ذكر لهم الخبير: إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه
الأحوال شيطانية، أقروا بذلك، وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق،
وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين، لما رأوا أنها تحصل
بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله
من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه لا من كرامات
الرحمن لأوليائه.