بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فتح الباري شرح صحيح البخاري
كِتَاب الطب 3
باب
مَنْ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ
باب
الْإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنْ الرَّمَدِ
باب
الْجُذَامِ
باب
الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
باب
اللَّدُودِ
باب
باب
الْعُذْرَةِ
باب
دَوَاءِ الْمَبْطُونِ
باب
لا صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ
باب
ذَاتِ الْجَنْبِ
باب
حَرْقِ الْحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ
باب
مَنْ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ
الشرح:
قوله:
(باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو) كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن
الأولى تركه إذا لم يتعين، وأنه إذا جاز كان أعم من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو
بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي
الباب، وفضل تركه من قوله: " وما أحب أن أكتوي".
وقد
أخرج مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال: " رمي سعد بن معاذ على أكحله
فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن طريق أبي سفيان عن جابر " أن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه"،
وروى الطحاوي وصححه الحاكم عن أنس قال: " كواني أبو طلحة في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم " وأصله في البخاري، وأنه كوي من ذات الجنب، وسيأتي قريبا.
وعند
الترمذي عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة "
ولمسلم عن عمران بن حصين " كان يسلم علي حتى اكتويت فترك، ثم تركت الكي فعاد "
وله عنه من وجه آخر " إن الذي كان انقطع عني رجع إلي " يعني تسليم
الملائكة، كذا في الأصل، وفي لفظ أنه " كان يسلم علي فلما اكتويت أمسك عني،
فلما تركته عاد إلي " وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران " نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا " وفي
لفظ " فلم يفلحن ولم ينجحن " وسنده قوي، والنهي فيه محمول على الكراهة
أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل إنه خاص بعمران لأنه كان به
الباسور وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه.
فلما
اشتد عليه كواه فلم ينجح.
وقال
ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه: " لم يتوكل
من اكتوى " لأنه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع، والثاني كي الجرح إذا
نغل أي فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي يشرع التداوي به فإن كان الكي لأمر محتمل
فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق.
وحاصل
الجمع أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه
أرجح من فعله، وكذا الثناء على تاركه.
وأما
النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه وإما عما لا يتعين طريقا إلى الشفاء
والله أعلم.
وقد
تقدم شيء من هذا في " باب الشفاء في ثلاث " ولم أر في أثر صحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى " كتاب أدب النفوس " للطبري
أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ " روي أنه اكتوى
للجرح الذي أصابه بأحد".
قلت: والثابت
في الصحيح كما تقدم في غزوة أحد " أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه " وليس
هذا الكي المعهود، وجزم ابن التين بأنه اكتوى، وعكسه ابن القيم في الهدى.
الحديث:
حَدَّثَنَا
أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
قَالَ سَمِعْتُ جَابِراً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ
لَذْعَةٍ بِنَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ
الشرح:
قوله:
(حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) هو الطيالسي.
قوله:
(سمعت جابرا) في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن أبي الوليد بسنده "
أتانا جابر في بيتنا فحدثنا".
قوله: (ففي شرطة محجم، أو لذعة بنار) كذا اقتصر في هذه الطريق على شيئين، وحذف الثالث وهو العسل؛ وثبت ذكره في رواية أبي نعيم من طريق أبي مسعود عن أبي الوليد، وكذا عند الإسماعيلي لكن لم يسق لفظه بل أحال به على رواية أبي نعيم عن ابن الغسيل، وقد تقدم عن أبي نعيم تاما في "
باب الدواء بالعسل " واختصر من هذه الطريق
أيضا قوله: " توافق الداء " وقد تقدم بيانها هناك.
الحديث:
حَدَّثَنَا
عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ
عَامِرٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَا
رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ
يَمُرُّونَ مَعَهُمْ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ حَتَّى رُفِعَ
لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هَذَا أُمَّتِي هَذِهِ قِيلَ بَلْ هَذَا مُوسَى
وَقَوْمُهُ قِيلَ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الْأُفُقَ
ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا
سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ
هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ
فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاتَّبَعْنَا
رَسُولَهُ فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ
فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا
يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَالَ
عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ
فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ
الشرح:
قوله:
(عمران بن ميسرة) بفتح الميم وسكون التحتانية بعدها مهملة.
قوله:
(حصين) بالتصغير هو ابن عبد الرحمن الواسطي، وعامر هو الشعبي.
قوله:
(عن عمران بن حصين قال: لا رقية إلا من عين أو حمة) كذا رواه محمد بن فضيل عن حصين
موقوفا، ووافقه هشيم وشعبة عن حصين على وقفه، ورواية هشيم عند أحمد ومسلم، ورواية
شعبة عند الترمذي تعليقا، ووصلها ابنا أبي شيبة ولكن قالا " عن بريدة " بدل
عمران بن حصين، وخالف الجميع مالك بن مغول عن حصين فرواه مرفوعا وقال: " عن
عمران بن حصين " أخرجه أحمد وأبو داود، وكذا قال ابن عيينة " عن حصين "
أخرجه الترمذي، وكذا قال إسحاق بن سليمان " عن حصين " أخرجه ابن ماجه.
واختلف
فيه على الشعبي اختلافا آخر فأخرجه أبو داود من طريق العباس بن ذريح بمعجمة وراء
وآخره مهملة بوزن عظيم فقال: " عن الشعبي عن أنس " ورفعه، وشذ العباس
بذلك، والمحفوظ رواية حصين مع الاختلاف عليه في رفعه ووقفه، وهل هو عن عمران أو
بريدة، والتحقيق أنه عنده عن عمران وعن بريدة جميعا.
ووقع
لبعض الرواة عن البخاري قال: حديث الشعبي مرسل، والمسند حديث ابن عباس، فأشار بذلك
إلى أنه أورد حديث الشعبي استطرادا ولم يقصد إلى تصحيحه، ولعل هذا هو السر في حذف
الحميدي له من " الجمع بين الصحيحين " فإنه لم يذكره أصلا.
ثم
وجدت في نسخة الصغاني " قال أبو عبد الله هو المصنف: إنما أردنا من هذا حديث
ابن عباس، والشعبي عن عمران مرسل " وهذا يؤيد ما ذكرته.
قوله:
(لا رقية إلا من عين أو حمة) بضم المهملة وتخفيف الميم، قال ثعلب وغيره: هي سم
العقرب.
وقال
القزاز: قيل: هي شوكة العقرب، وكذا قال ابن سيده إنها الإبرة التي تضرب بها العقرب
والزنبور.
وقال
الخطابي: الحمة كل هامة ذات سم من حية أو عقرب.
وقد
أخرج أبو داود من حديث سهل بن حنيف مرفوعا " لا رقية إلا من نفس، أو حمة، أو
لدغة " فغاير بينهما، فيحتمل أن يخرج على أن الحمة خاصة بالعقرب، فيكون ذكر
اللدغة بعدها من العام بعد الخاص.
وسيأتي
بيان حكم الرقية في " باب رقية الحية والعقرب " بعد أبواب، وكذلك ذكر
حكم العين في باب مفرد.
قوله:
(فذكرته لسعيد بن جبير) القائل ذلك حصين بن عبد الرحمن، وقد بين ذلك هشيم عن حصين
بن عبد الرحمن قال: " كنت عند سعيد بن جبير فقال: حدثني ابن عباس " وسيأتي
ذلك في كتاب الرقاق.
وأخرجه
أحمد عن هشيم ومسلم من وجه آخر عنه بزيادة قصة قال: " كنت عند سعيد بن جبير
فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا.
ثم
قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكن لدغت.
قال: وكيف
فعلت؟ قلت: استرقيت.
قال: وما
حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة أنه قال لا رقية إلا من عين أو
حمة.
فقال
سعيد قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ثم قال: حدثنا ابن عباس " فذكر الحديث.
قوله:
(عرضت علي الأمم) سيأتي شرحه في كتاب الرقاق، وقوله في هذه الرواية " حتى وقع
في سواد " كذا للأكثر بواو وقاف، وبلفظ " في"، وللكشميهني " حتى
رفع " براء وفاء، وبلفظ " لي " وهو المحفوظ في جميع طرق هذا الحديث.
قوله:
(فقال هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون) سيأتي الكلام على الرقية بعد قليل، وكذلك
يأتي القول في الطيرة بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
باب
الْإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنْ الرَّمَدِ
فِيهِ
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ
الشرح:
قوله:
(باب الإثمد والكحل من الرمد) أي بسب الرمد، والرمد بفتح الراء والميم: ورم حار
يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر، وسببه انصباب أحد الأخلاط أو
أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى
العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو
إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة، وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم
يجد أحدث الصداع كما تقدم.
قوله:
(فيه عن أم عطية) يشير إلى حديث أم عطية مرفوعا " لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر تحد فوق ثلاث إلا على زوج " فإنها لا تكتحل، وقد تقدم في أبواب
العدة، لكن لم أر في شيء من طرقه ذكر الإثمد، فكأنه ذكره لكون العرب غالبا إنما
تكتحل به، وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن عباس رفعه " اكتحلوا بالإثمد،
فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له، وابن ماجه
وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في " الشمائل " وفي
الباب عن جابر عند الترمذي في " الشمائل " وابن ماجه وابن عدي من ثلاث
طرق عن ابن المنكدر عنه بلفظ " عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر "
وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني ولفظه " عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر،
مذهبة للقذى، مصفاة للبصر " وسنده حسن، وعن ابن عمر بنحوه عند الترمذي في "
الشمائل " وعن أنس في " غريب مالك " للدار قطني بلفظ " كان
يأمرنا بالإثمد " وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ " اكتحلوا بالإثمد
فإنه " الحديث، وهو عند أبي داود من حديثه بلفظ " إنه أمر بالإثمد
المروح عند النوم " وعن أبي هريرة بلفظ " خير أكحالكم الإثمد فإنه "
الحديث أخرجه البزار وفي سنده مقال، وعن أبي رافع " أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يكتحل بالإثمد " أخرجه البيهقي وفي سنده مقال، وعن عائشة " كان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثمد يكحل به عند منامه في كل عين ثلاثا " أخرجه
أبو الشيخ في كتاب " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " بسند ضعيف،
والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكي فيه ضم الهمزة: حجر معروف
أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان، واختلف هل هو
اسم الحجر الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل؟ ذكره ابن سيده وأشار إليه
الجوهري، وفي هذه الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد ووقع الأمر بالاكتحال وترا من
حديث أبي هريرة في " سنن أبي داود " ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت
إليها كبقية الاكتحال، وحاصله ثلاثا في كل عين، فيكون الوتر في كل واحدة على حدة،
أو اثنتين في كل عين وواحدة بينهما، أو في اليمين ثلاثا وفي اليسرى ثنتين فيكون
الوتر بالنسبة لهما جميعا وأرجحها الأول والله أعلم.
الحديث:
حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ
نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ وَأَنَّهُ يُخَافُ
عَلَى عَيْنِهَا فَقَالَ لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي
شَرِّ أَحْلَاسِهَا أَوْ فِي أَحْلَاسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا فَإِذَا مَرَّ
كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً فَهَلَّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
الشرح:
ذكر
المصنف حديث أم سلمة من رواية زينب وهي بنتها عنها " أن امرأة توفي زوجها
فاشتكت عينها، فذكروها للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الكحل وأنه يخاف على
عينها " الحديث، وقد مرت مباحثه في أبواب الإحداد.
وأما
قوله في آخره: " فلا، أربعة أشهر وعشرا " كذا للأكثر وعند الكشميهني "
فهلا أربعة أشهر وعشرا "؟ وهي واضحة، وأما الاقتصار على حرف النهي فالمنفي
مقدر كأنه قال: فلا تكتحل، ثم قال: تمكث أربعة أشهر وعشرا.
باب
الْجُذَامِ
وَقَالَ
عَفَّانُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ
قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ
وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ
الشرح:
قوله:
(باب الجذام) بضم الجيم وتخفيف المعجمة، هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة
السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتأكل.
قال
ابن سيده: سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها.
قوله:
(وقال عفان) هو ابن مسلم الصفار.
وهو
من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة، وهو من المعلقات التي لم يصلها في
موضع آخر، وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية، وعلى طريقة ابن الصلاح يكون
موصولا.
وقد
وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم
بن حيان شيخ عفان فيه، وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن مرزوق عن سليم لكن موقوفا ولم
يستخرجه الإسماعيلي.
وقد
وصله ابن خزيمة أيضا.
وسليم
بفتح أوله وكسر ثانيه، وحيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة.
قوله:
(لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) كذا جمع الأربعة في هذه الرواية، ويأتي مثله
سواء بعد عدة أبواب في " باب لا هامة " من طريق أبي صالح عن أبي هريرة،
ويأتي بعد خمسة أبواب من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن بدون قوله: " ولا
طيرة " وأعاده بعد أبواب كثيرة بزيادة قصة، وبعد عدة أبواب في " باب لا
طيرة " من طريق عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة " لا طيرة " حسب،
وفي " باب لا عدوى " من طريق سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة بلفظ "
لا عدوى " حسب، ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ " لا
عدوى ولا هامة ولا طيرة".
وأخرج
مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي سلمة وزاد "
ولا نوء " ويأتي في " باب لا عدوى " من حديث ابن عمر، ومن حديث أنس
" لا عدوى ولا طيرة"، ولمسلم وابن حيان من طريق ابن جريج أخبرني أبو
الزبير أنه سمع جابرا بلفظ " لا عدوى ولا صفر ولا غول " وأخرج ابن حبان
من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية سعيد بن ميناء وأبي صالح عن أبي
هريرة وزاد فيه القصة التي في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو في ابن ماجه
باختصار.
فالحاصل
من ذلك ستة أشياء: العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء، والأربعة الأول
قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة فنذكر شرحها فيه وأما الغول فقال الجمهور: كانت
العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم
تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، وقد كثر في كلامهم " غالته
الغول " أي أهلكته أو أضلته، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقيل:
ليس المراد إبطال وجود الغيلان، وإنما معناه إبطال ما كانت العرب تزعمه من تلون
الغول بالصور المختلفة، قالوا: والمعني لا يستطيع الغول أن يضل أحدا.
ويؤيده
حديث " إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان " أي ادفعوا شرها بذكر الله.
وفي
حديث أبي أيوب عند قوله: " كانت لي سهوة فيها تمر، فكانت الغول تجيء فتأكل
منه " الحديث، وأما النوء فقد تقدم القول فيه في كتاب الاستسقاء، وكانوا
يقولون " مطرنا بنوء كذا " فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك بأن المطر إنما
يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في ذلك الوقت،
لكن بإرادة الله تعالى وتقديره، لا صنع للكواكب في ذلك، والله أعلم.
قوله (وفر
من المجذوم كما تفر من الأسد) لم أقف عليه من حديث أبي هريرة إلا من هذا الوجه،
ومن وجه آخر عند أبي نعيم في الطب، لكنه معلول.
وأخرج
ابن خزيمة في " كتاب التوكل " له شاهدا من حديث عائشة ولفظه " لا
عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد " وأخرج مسلم من حديث عمرو
بن الشريد الثقفي عن أبيه قال: " كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك، فارجع " قال عياض: اختلفت الآثار
في المجذوم، فجاء ما تقدم عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع
مجذوم وقال: ثقة بالله وتوكلا عليه " قال فذهب عمر وجماعة من السلف إلى الأكل
معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ.
وممن
قال بذلك عيسى بن دينار من المالكية، قال: والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير
إليه أن لا نسخ، بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على
الاستحباب والاحتياط، والأكل معه على بيان الجواز ا ه.
هكذا
اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح،
وقد سلكه فريقان: أحدهما سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوى وتزييف الأخبار
الدالة على عكس ذلك مثل حديث الباب فأعلوه بالشذوذ، وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج
الطبري عنها " أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى.
وقال:
فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في
أقداحي وينام على فراشي " وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه
فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى
كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث " لا تديموا النظر إلى
المجذومين " وقد أخرجه ابن ماجه وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد الله بن أبي أوفى
رفعه " كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين " أخرجه أبو نعيم في الطب
بسند واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري " أن عمر قال لمعيقيب:
اجلس مني قيد رمح " ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثران
منقطعان، وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام،
والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو
أولى.
الفريق
الثاني سلكوا في الترجيح عكس هذا المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع
عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه عنده كما سيأتي إيضاحه في " باب لا عدوى "
قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج وأكثر طوقا فالمصير إليها أولى،
قالوا: وأما حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها
في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه " ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي
وبين الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه
صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قاله الكلاباذي في "
معاني الأخبار".
والجواب
أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح
عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم، فلا معنى لدعوى كونه معلولا،
والله أعلم.
وفي
طريق الجمع مسالك أخرى: أحدها: نفي العدوى جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على
رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته
وتزداد حسرته، ونحوه حديث " لا تديموا النظر إلى المجذومين " فإنه محمول
على هذا المعنى.
ثانيها:
حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء " لا عدوى " كان
المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى،
كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به،
وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل
المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء " فر من المجذوم " كان
المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع
اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا
لإثباتها.
وقريب
من هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكي مع إذنه فيه كما تقدم تقريره، وقد فعل هو
صلى الله عليه وسلم كلا من الأمرين ليتأسى به كل من الطائفتين.
ثالث
المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاني: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من
عموم نفي العدوى، قال: فيكون معني قوله: " لا عدوى " أي إلا من الجذام
والبرص والجرب مثلا، قال: فكأنه قال لا يعدي شيء شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن
فيه العدوى.
وقد
حكى ذلك ابن بطال.
رابعها:
أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو
انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في
كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة،
وهذه طريقة ابن قتيبة فقال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته
ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه،
ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوى بل على طريق التأثر
بالرائحة لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا يورد ممرض على مصح " لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط
الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو
ما به.
قال: وأما
قوله: " لا عدوى " فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر
منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله.
المسلك
الخامس: أن المراد ينفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية
تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه
وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم
عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى
مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو
الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضا أن
يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في
العادة، إذا ليس الجذمي كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم بل لا يحصل منه في
العادة عدوى أصلا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي.
وعلى
الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية، قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه: الجذام
والبرص يزعم أهل العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا، وهو داء مانع للجماع
لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به، وأما
الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم أو أبرص أنه قلما يسلم، وإن سلم أدرك نسله.
قال
البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا عدوى "
فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى.
وقد
يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " وقال: "
لا يورد ممرض على مصح " وقال في الطاعون " من سمع به بأرض فلا يقدم عليه
" وكل ذلك بتقدير الله تعالى.
وتبعه
على ذلك ابن الصلاح في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله.
المسلك
السادس: العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد
الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي
نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة فقال أبو عبيد: ليس في
قوله: " لا يورد ممرض على مصح " إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت
بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك،
فأمر باجتنابه.
قال: وكان
بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيح من ذوات العاهة،
قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث، لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع، ولكن
وجه الحديث عندي ما ذكرته.
وأطنب
ابن خزيمة في هذا في " كتاب التوكل " فإنه أورد حديث " لا عدوى "
عن عدة من الصحابة وحديث " لا يورد ممرض على مصح " من حديث أبي هريرة
وترجم للأول " التوكل على الله في نفي العدوى " وللثاني " ذكر خبر
غلط في معناه بعض العلماء، وأثبت العدوى التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم "
ثم ترجم " الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إثبات العدوى بهذا
القول " فساق حديث أبي هريرة " لا عدوى، فقال أعرابي: فما بال الإبل
يخالطها الأجرب فتجرب؟ قال: فمن أعدى الأول " ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة، ثم
أخرجه من حديث ابن مسعود، ثم ترجم " ذكر خبر روي في الأمر بالفرار من المجذوم
قد يخطر لبعض الناس أن فيه إثبات العدوى وليس كذلك " وساق حديث " فر من
المجذوم فرارك من الأسد " من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، وحديث عمرو بن
الشريد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع، وحديث ابن عباس " لا تديموا النظر
إلى المجذومين " ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم
كما نهاهم أن يورد الممرض على المصح شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه
المجذوم الجذام، والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من
العدوى فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم فأمرهم بتجنب ذلك شفقة منه
ورحمة ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئا.
قال: ويؤيد
هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم ثقة بالله وتوكلا عليه، وساق حديث جابر في
ذلك ثم قال: وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم فيحتمل أن يكون لأن المجذوم
يغتم ويكره إدمان الصحيح نظره إليه، لأنه قل من يكون به داء إلا وهو يكره أن يطلع
عليه ا ه.
وهذا
الذي ذكره احتمالا سبقه إليه مالك، فإنه سئل عن هذا الحديث فقال: ما سمعت فيه
بكراهية، وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء.
وقال
الطبري: الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفسا إلا
ما كتب عليها.
وأما
دنو عليل من صحيح فغير موجب انتقال العلة للصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو
من صاحب العاهة التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو
نزل به ذلك الداء أنه من جهة دنوه من العليل فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه
وسلم من العدوى.
قال: وليس
في أمره بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل
الإرشاد أحيانا وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، إنما
كان يفعل ما نهى عنه أحيانا لبيان أن ذلك ليس حراما.
وقد
سلك الطحاوي في " معاني الآثار " مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد حديث "
لا يورد ممرض على مصح " ثم قال: معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض فيقول
الذي أورده لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شيء، والواقع أنه لو لم
يورده لأصابه لكون الله تعالى قدره، فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا
من وقوعها في قلب المرء ثم ساق الأحاديث في ذلك فأطنب، وجمع بينها بنحو ما جمع به
ابن خزيمة.
ولذلك
قال القرطبي في " المفهم ": إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدوى،
أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله: " فر من المجذوم فرارك
من الأسد " وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة
وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته لتأذت نفسه
بذلك، فحينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرق
الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينحي حذر من قدر، والله أعلم.
قال
الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب، بل للشفقة، لأنه
صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان، ويدلهم على كل ما
فيه خير.
وقد
ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللا فكان هذا وجه الأمر بالمجانبة،
وقد أكل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لما فعله.
قال: ويمكن
الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة
الإيمان، فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة، ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا
لأن الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال
تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه
صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في
الفرار لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.
فالحاصل
أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي
للضعفاء أن يقربوها وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار.
قال: وفي
الحديث أن الحكم للأكثر لأن الغالب من الناس هو الضعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب
ذلك.
واستدل
بالأمر بالفرار من المجذوم لإثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما
بالآخر، وهو قول جمهور العلماء.
وأجاب
فيه من لم يقل بالفسخ بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام ولا قائل به،
ورد بأن الخلاف ثابت، بل هو الراجح عند الشافعية، وقد تقدم في النكاح الإلمام بشيء
من هذا.
واختلف
في أمة الأجذم: هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ واختلف العلماء
في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع؟ وهل يتخذ لهم مكان منفرد
عن الأصحاء؟ ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع ولا في شهود الجمعة.
باب
الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
الشرح:
قوله:
(باب المن شفاء للعين) كذا للاكثر.
وفي
رواية الاصيلي " شفاء من العين " وعليها شرح ابن بطال، ويأتي توجيهها.
وفي
هذه الترجمة إشارة إلى ترجيح القول الصائر إلى أن المراد بالمن في حديث الباب
الصنف المخصوص من المأكول، لا المصدر الذي بمعني الامتنان، وإنما أطلق على المن
شفاء لان الخبر ورد أن الكمأة منه وفيها شفاء فإذا ثبت الوصف للفرع كان ثبوته
للاصل أولى.
الحديث:
حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ سَمِعْتُ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ
قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْكَمْأَةُ
مِنْ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ قَالَ شُعْبَةُ وَأَخْبَرَنِي
الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ
حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ شُعْبَةُ لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ
الشرح:
قوله:
(عن عبد الملك) هو ابن عمير، وصرح به أحمد في روايته عن محمد بن جعفر غندر، وعمرو
بن حريث هو المخزومي له صحبة.
قوله:
(سمعت سعيد بن زيد) أي ابن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة، وعمر بن الخطاب بن نفيل
ابن عم أبيه.
كذا
قال عبد الملك بن عمير ومن تابعه، وخالفهم عطاء بن السائب من رواية عبد الوارث عنه
فقال: " عن عمرو بن حريث عن أبيه " أخرجه مسدد في مسنده وابن السكن في
الصحابة والدار قطني في " الافراد " وقال في " العلل"، الصواب
رواية عبد الملك.
وقال
ابن السكن أظن عبد الوارث أخطأ فيه.
وقيل:
كان سعيد بن زيد تزوج أم عمرو بن حريث فكأنه قال: " حدثني أبي " وأراد
زوج أمه مجازا فظنه الراوي أباه حقيقة.
قوله:
(الكمأة) بفتح الكاف وسكون الميم بعدها همزة مفتوحة، قال الخطابي: وفي العامة من
لا يهمزه، واحدة الكمء بفتح ثم سكون ثم همزة مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الاعرابي
فقال: الكمأة الجمع والكمء على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى
خبأة وخبء.
وقيل:
الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر: ولقد
جنيتك أكمؤا وعساقلا والعساقل بمهملتين وقاف ولام الشراب، وكأنه أشار إلى أن
الاكمؤ محل وجدانها الفلوات.
والكمأة
نبات لا ورق لها ولا ساق، توجد في الارض من غير أن تزرع.
قيل: سميت
بذلك لاستتارها، يقال كمأ الشهادة إذا كتمها.
ومادة
الكمأة من جوهر أرضي بخاري يحتقن نحو سطح الارض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع
فيتولد ويندفع متجسدا، ولذلك كان بعض العرب يسميها جدري الارض تشبيها لها بالجدري
مادة وصورة، لان مادته رطوبة دموية تندفع غاليا عند الترعرع وفي ابتداء استيلاء
الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهر.
وأخرج
الترمذي من حديث أبي هريرة " أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا: الكمأة جدري الارض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن " الحديث.
وللطبري
من طريق ابن المنكدر عن جابر قال: " كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هي جدري الارض، فبلغه ذلك فقال: إن الكمأة
ليست من جدري الارض، ألا إن الكمأة من المن " والعرب تسمي الكمأة أيضا بنات
الرعد لانها تكثر بكثرته ثم تنفطر عنها الارض.
وهي
كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء،
ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة.
وهي
باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة الهضم، وإدمان أكلها يورث القولنج
والسكتة والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررا من اليابس، وإذا دفنت في الطين
الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع
ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذلك كان ماؤها شفاء للعين.
قوله:
(من المن) قيل في المراد بالمن ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد أنها من المن الذي
أنزل على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا، ومنه
الترنجبين فكأنه شبه به الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج.
قلت: وقد
تقدم بيان ذلك واضحا في تفسير سورة البقرة، وذكرت من زاد في متن هذا الحديث "
الكمأة من المن الذي أنزل على بني إسرائيل".
والثاني:
أن المعنى أنها من المن الذي امتن الله به على عباده عفوا بغير علاج، قاله أبو
عبيد وجماعة.
وقال الخطابي:
ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني
إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من
غير تكلف ببذر ولا سقي، فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فيقع على
الشجر فيتناولونه.
ثم
أشار إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل كان أنواعا، منها ما يسقط
على الشجر، ومنها ما يخرج من الارض فتكون الكمأة منه، وهذا هو القول الثالث وبه
جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه فقالوا: إن المن الذي أنزل على بني
إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط بل كان أنواعا من الله عليهم بها من النبات
الذي يوجد عفوا، ومن الطير التي تسقط عليهم بغير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على
الشجر.
والمن
مصدر بمعني المفعول أي ممنون به، فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب كان منا محضا،
وإن كانت جميع نعم الله تعالى على عبيده منا منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن
لكونه لا صنع فيه لاحد، فجعل سبحانه وتعالى قوتهم في التيه الكمأة وهي تقوم مقام
الخبز، وأدمهم السلوى وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطل الذي ينزل على الشجر،
فكمل بذلك عيشهم.
ويشير
إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "من المن " فأشار إلى أنها فرد من
أفراده، فالترنجبين كذلك فرد من أفراد المن، وإن غلب استعمال المن عليه عرفا ا ه.
ولا
يعكر على هذا قولهم: (لن نصبر على طعام واحد) لان المراد بالوحدة دوام الاشياء
المذكورة من غير تبدل وذلك يصدق على ما إذا كان المطعوم أصنافا لكنها لا تتبدل
أعيانها.
قوله:
(وماؤها شفاء للعين) كذا للاكثر وكذا عند مسلم.
وفي
رواية المستملي " من العين " أي شفاء من داء العين، قال الخطابي: إنما
اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لانها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة،
ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر، والعكس بالعكس.
قال
ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة، إلا أن
أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع به
على رأيين: أحدهما: أنه يخلط في الادوية التي يكتحل بها حكاه أبو عبيد، قال: ويصدق
هذا الذي حكاه أبو عبيد أن بعض الاطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر، ثانيهما: أن
تؤخذ فتشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو
فاتر فيكتحل بمائها، لان النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه، ولا
يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة فلا ينجع، وقد حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد
الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها
فهاجت أعينهما ورمدا.
قال
ابن الجوزي: وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل
به فذهبت عينه.
والقول
الثاني أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الارض فتربى به الاكحال
حكاه ابن الجوزي عن أبي بكر بن عبد الباقي أيضا، فتكون الاضافة إضافة الكل لا
إضافة جزء.
قال
ابن القيم: وهذا أضعف الوجوه.
قلت: وفيما
ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفا نظر، فقد حكى عياض عن بعض
أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلا، وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من
الحرارة فتستعمل مفردة، وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي
فقال: الصحيح أنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحا.
نعم
جزم الخطابي بما قال ابن الجوزي فقال: تربى بها التوتياء وغيرها من الاكحال، قال: ولا
تستعمل صرفا فإن ذلك يؤذي العين.
وقال
الغافقي في " المفردات ": ماء الكمأة أصلح الادوية للعين إذا عجن به
الاثمد واكتحل به، فإنه يقوي الجفن، ويزيد الروح الباصر حدة وقوة، ويدفع عنها
النوازل.
وقال
النووي: الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال: وقد
رأيت أنا وغيري في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا
فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الامين الكمال بن عبد الدمشقي صاحب صلاح
ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به فنفعه
الله به.
قلت: الكمال
المذكور هو كمال الدين بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر يعرف بابن عبد بغير
إضافة الحارثي الدمشقي من أصحاب أبي طاهر الخشوعي، سمع منه جماعة من شيوخ شيوخنا،
عاش ثلاثا وثمانين سنة ومات سنة اثنتين وسبعين وستمائة قبل النووي بأربع سنين.
وينبغي
تقييد ذلك بمن عرف من نفسه قوة اعتقاد في صحة الحديث والعمل به كما يشير إليه آخر
كلامه، وهو ينافي قوله أولا مطلقا، وقد أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح إلى قتادة
قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ أو خمسا أو سبعا فعصرتهن فجعلت ماءهن
في قارورة فكحلت به جارية لي فبرئت.
وقال
ابن القيم: اعترف فضلاء الاطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسبحي وابن سينا
وغيرهما.
والذي
يزيل الاشكال عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خلقت في الاصل سليمة
من المضار، ثم عرضت لها الافات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من
الاسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الاصل نافعة لما اختصت به من وصفها
بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة
بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنبته، والعكس بالعكس، والله أعلم.
قوله:
(وقال شعبة) كذا لابي ذر بواو في أوله وصورته صورة التعليق، وسقطت الواو لغيره،
وهو أولى فإنه موصول بالاسناد المذكور، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن المثني شيخ
البخاري فيه فأعاد الاسناد من أوله للطريق الثانية، وكذا أورده أحمد عن محمد بن
جعفر بالاسنادين معا.
قوله:
(وأخبرني الحكم) هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر والحسن العرني بضم المهملة
وفتح الراء بعدها نون هو ابن عبد الله البجلي، كوفي وثقه أبو زرعة والعجلي وابن
سعد.
وقال
ابن معين صدوق.
قلت: وما
له في البخاري إلا هذا الموضع.
قوله:
(قال شعبة لما حدثني به الحكم لم أنكره من حديث عبد الملك) كأنه أراد أن عبد الملك
كبر وتغير حفظه، فلما حدث به شعبة توقف فيه، فلما تابعه الحكم بروايته ثبت عند
شعبة فلما ينكره، وانتفى عنه التوقف فيه.
وقد
تكلف الكرماني لتوجيه كلام شعبة أشياء فيها نظر.
أحدها:
أن الحكم مدلس وقد عنعن، وعبد الملك صرح بقوله: " سمعته " فلما تقوى
برواية عبد الملك لم يبق به محل للانكار.
قلت: شعبة
ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما يتحقق سماعهم فيه، وقد جزم
بذلك الاسماعيلي وغيره ببعد هذا الاحتمال، وعلى تقدير تسليمه كان يلزم الامر
بالعكس بأن يقول لما حدثني عبد الملك لم أنكره من حديث الحكم.
ثانيها:
لما يكن الحديث منكورا لي لاني كنت أحفظه.
ثالثها:
يحتمل العكس بأن يراد لم ينكر شيئا من حديث عبد الملك، وقد ساق مسلم هذه الطريق من
أوجه أخرى عن الحكم.
ووقع
عنده في المتن " من المن الذي أنزل على بني إسرائيل " وفي لفظ " على
موسى " وقد أشرت إلى ما في هذه الزيادة من الفائدة في الكلام على هذا الحديث
في تفسير سورة البقرة.
باب
اللَّدُودِ
الشرح:
قوله:
(باب اللدود) بفتح اللام وبمهملتين: هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض.
واللدود
بالضم الفعل.
ولددت
المريض فعلت ذلك به.
الحديث:
حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَبَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
مَيِّتٌ قَالَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ
إِلَيْنَا أَنْ لا تَلُدُّونِي فَقُلْنَا كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي قُلْنَا كَرَاهِيَةَ
الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ فَقَالَ لا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا لُدَّ
وَأَنَا أَنْظُرُ إِلا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ
الشرح:
تقدم
شرح الحديث مستوفى في " باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم " وبيان ما
لدوه به، وبيان من عرف اسمه ممن كان في البيت ولد لامره صلى الله عليه وسلم: بذلك
فأغنى عن إعادته.
الحديث:
حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ دَخَلْتُ بِابْنٍ
لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعْلَقْتُ
عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ فَقَالَ عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلادَكُنَّ بِهَذَا
الْعِلاقِ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ
أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنْ الْعُذْرَةِ وَيُلَدُّ مِنْ
ذَاتِ الْجَنْبِ فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ
يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً قُلْتُ لِسُفْيَانَ فَإِنَّ مَعْمَراً يَقُولُ
أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ قَالَ لَمْ يَحْفَظْ إِنَّمَا قَالَ أَعْلَقْتُ عَنْهُ
حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلامَ يُحَنَّكُ
بِالاصْبَعِ وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ إِنَّمَا يَعْنِي رَفْعَ حَنَكِهِ
بِإِصْبَعِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْلِقُوا عَنْهُ شَيْئاً
الشرح:
الحديث
سيأتي شرحه في " باب العذرة " قريبا.
باب
الحديث:
حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ
قَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ
يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ
رِجْلاهُ فِي الارْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ
هَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الاخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لا
قَالَ هُوَ عَلِيٌّ قَالَتْ عَائِشَةُ
فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا
وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ
أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ قَالَتْ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي
مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ
طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ
إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ
وَخَطَبَهُمْ
الشرح:
قوله:
(باب) كذا لهم بغير ترجمة، وذكر فيه حديث عائشة " لما ثقل النبي صلى الله
عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي " الحديث، وقد تقدم
شرحه في الوفاة النبوية، ومن قبل ذلك في كتاب الطهارة، والغرض منه هنا قوله:
" هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن " وقد تقدم بيان الحكمة فيه في
الطهارة، وقد استشكل ابن بطال مناسبة حديث هذا الباب لترجمة الذي قبله بعد أن تقرر
أن الباب إذا كان بلا ترجمة يكون كالفصل من الذي قبله، وأجاب باحتمال أن يكون أشار
إلى أن الذي يفعل بالمريض بأمره لا يلزم فاعل ذلك لوم ولا قصاص، لانه صلى الله
عليه وسلم لم يأمر بصب الماء على كل من حضره بخلاف ما نهى عنه أن لا يفعل به لان
فعله جناية عليه فيكون فيه القصاص.
قلت: ولا
يخفى بعده.
ويمكن
أن يقرب بأن يقال أولا إنه أشار إلى أن الحديث عن عائشة في مرض النبي صلى الله
عليه وسلم وما اتفق له فيه واحد ذكره بعض الرواة تاما واقتصر بعضهم على بعضه، وقصة
اللدود كانت عندما أغمي عليه، وكذلك قصة السبع قرب، لكن اللدود كان نهي عنه ولذلك
عاتب عليه، بخلاف الصب فإنه كان أمر فلم ينكر عليهم، فيؤخذ منه أن المريض إذا كان
عارفا لا يكره على تناول شيء ينهى عنه ولا يمنع من شيء يأمر به.
باب
الْعُذْرَةِ
الشرح:
قوله:
(باب العذرة) بضم المهملة وسكون الذال المعجمة: هو وجع الحلق، وهو الذي يسمى سقوط
اللهاة، وقيل: هو اسم اللهاة والمراد وجعها سمي باسمها، وقيل: هو موضع قريب من
اللهاة.
واللهاة
بفتح اللام اللحمة التي في أقصى الحلق.
الحديث:
حَدَّثَنَا
أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ
الاسَدِيَّةَ أَسَدَ خُزَيْمَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الاوَلِ اللاتِي
بَايَعْنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ
أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِابْنٍ لَهَا قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ
فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلادَكُنَّ
بِهَذَا الْعِلاقِ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ
سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُرِيدُ الْكُسْتَ وَهُوَ الْعُودُ
الْهِنْدِيُّ وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَلَّقَتْ عَلَيْهِ
الشرح:
قوله:
(وكانت من المهاجرات الخ) يشبه أن يكون الوصف من كلام الزهري فيكون مدرجا، ويحتمل،
أن يكون من كلام شيخه فيكون موصولا وهو الظاهر.
قوله:
(بابن لها) تقدم في " باب السعوط " أنه الابن الذي بال في حجر النبي صلى
الله عليه وسلم.
قوله:
(قد أعلقت عليه) تقدم قبل بباب من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري بلفظ " أعلقت
عنه " وفيه " قلت لسفيان فإن معمرا يقول أعلقت عليه، قال: لم يحفظ، إنما
قال: أعلقت عنه.
حفظته
من في الزهري " ووقع هنا معلقا من رواية يونس وهو ابن يزيد، وإسحاق بن راشد
عن الزهري " علقت عليه " بتشديد اللام والصواب " أعلقت " والاسم
العلاق بفتح المهملة.
وكذا
وقع في رواية سفيان الماضية " بهذا العلاق " كذا للكشميهني، ولغيره "
الاعلاق " ورواية يونس المعلقة هنا وصلها أحمد ومسلم، ورواية إسحاق بن راشد
وصلها المؤلف في " باب ذات الجنب " وسيأتي قريبا.
ورواية
معمر التي سأل عنها علي بن عبد الله سفيان أخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه لكن بلفظ
" جئت بابن لي قد أعلقت عنه " قال عياض: وقع في البخاري أعلقت وعلقت
والعلاق والاعلاق، ولم يقع في مسلم إلا " أعلقت " وذكر العلاق في رواية
والاعلاق في رواية والكل بمعنى جاءت به الروايات، لكن أهل اللغة إنما يذكرون
أعلقت؛ والاعلاق رباعي، وتفسيره غمز العذرة وهي اللهاة بالاصبع، ووقع في رواية
يونس عند مسلم " قال أعلقت غمزت " وقوله في الحديث " علام " أي
لاي شيء.
قوله:
(تدغرن) خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر غمز الحلق.
قوله:
(عليكم) في رواية الكشميهني " عليكن".
قوله:
(بهذا العود الهندي، يريد الكست) في رواية إسحاق بن راشد " يعني القسط قال
وهي لغة " قلت: وقد تقدم ما فيها في " باب السعوط بالقسط الهندي"،
ووقع في رواية سفيان الماضية قريبا " قال فسمعت الزهري يقول: بين لنا اثنتين،
ولم يبين لنا خمسة " يعني من السبعة في قوله: " فإن فيه سبعة أشفية "
فذكر منها ذات الجنب ويسعط من العذرة.
قلت: وقد
قدمت في " باب السعوط " من كلام الاطباء ما لعله يؤخذ منه الخمسة المشار
إليها.
باب
دَوَاءِ الْمَبْطُونِ
الشرح:
قوله:
(باب دواء المبطون) المراد بالمبطون من اشتكى بطنه لافراط الاسهال، وأسباب ذلك
متعددة.
الحديث:
حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَخِي
اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ اسْقِهِ عَسَلا فَسَقَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَقَيْتُهُ
فَلَمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقاً فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ
أَخِيكَ تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ شُعْبَةَ
الشرح:
قوله:
(قتادة عن أبي المتوكل) كذا لشعبة وسعيد بن أبي عروبة.
وخالفهما
شيبان فقال: " عن قتادة عن أبي بكر الصديق عن أبي سعيد " أخرجه النسائي
ولم يرجح، والذي يظهر ترجيح طريق أبي المتوكل لاتفاق الشيخين عليها شعبة وسعيد
أولا ثم البخاري ومسلم ثانيا، ووقع في رواية أحمد عن حجاج عن شعبة " عن قتادة
سمعت أبا المتوكل".
قوله:
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي) لم أقف على اسم واحد منهما.
قوله:
(استطلق بطنه) بضم المثناة وسكون الطاء المهملة وكسر اللام بعدها قاف، أي كثر خروج
ما فيه، يريد الاسهال.
ووقع
في رواية سعيد بن أبي عروبة في رابع باب من كتاب الطب " هذا ابن أخي يشتكي
بطنه " ولمسلم من طريقه " قد عرب بطنه " وهي بالعين المهملة والراء
المكسورة ثم الموحدة أي فسد هضمه لاعتلال المعدة، ومثله ذرب بالذال المعجمة بدل
العين وزنا ومعنى.
قوله:
(فقال اسقه عسلا) وعند الاسماعيلي من طريق خالد بن الحارث عن شعبة " اسقه
العسل " واللام عهدية، والمراد عسل النحل، وهو مشهور عندهم، وظاهره الامر
بسقيه صرفا، ويحتمل أن يكون ممزوجا.
قوله:
(فسقاه فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا) كذا فيه، وفي السياق حذف تقديره.
فسقاه
فلم يبرأ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني سقيته، ووقع في رواية مسلم "
فسقاه ثم جاء فقال: إني سقيته فلم يزدد إلا استطلاقا " أخرجه عن محمد بن بشار
الذي أخرجه البخاري عنه ولكن قرنه بمحمد بن المثنى وقال: إن اللفظ لمحمد بن المثنى.
نعم
أخرجه الترمذي عن محمد بن بشار وحده بلفظ " ثم حاء فقال: يا رسول الله، إني
قد سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا".
قوله:
(فقال صدق الله) كذا اختصره.
وفي
رواية الترمذي " فقال اسقه عسلا، فسقاه، ثم جاء " فذكر مثله فقال:
" صدق الله " وفي رواية مسلم " فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة
فقال: اسقه عسلا فقال سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال صدق الله " وعند
أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة " فذهب ثم جاء فقال: قد سقيته فلم يزده إلا
استطلاقا، فقال: اسقه عسلا فسقاه " كذلك ثلاثا وفيه " فقال في الرابعة
اسقه عسلا " وعند الاسماعيلي من رواية خالد بن الحارث ثلاث مرات يقول فيهن ما
قال في الاولى.
وتقدم
في رواية سعيد بن أبي عروبة بلفظ " ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا ثم أتاه
الثالثة".
قوله:
(فقال صدق الله وكذب بطن أخيك) زاد مسلم في روايته " فسقا فبرأ " وكذا
للترمذي.
وفي
رواية أحمد عن يزيد بن هارون، فقال في الرابعة اسقه عسلا، قال: فأظنه قال فسقاه
فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرابعة: صدق الله وكذب بطن أخيك "
كذا وقع ليزيد بالشك وفي رواية خالد بن الحارث " فقال في الرابعة صدق الله
وكذب بطن أخيك " والذي اتفق عليه محمد بن جعفر ومن تابعه أرجح، وهو أن هذا
القول وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة، وأمره أن يسقيه عسلا فسقاه في
الرابعة فبرأ.
وقد
وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة " ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا، ثم أتاه
فقال: قد فعلت، فسقاه فبرأ".
قوله:
(تابعه النضر) يعني ابن شميل بالمعجمة مصغر (عن شعبة) وصله إسحاق بن راهويه في
مسنده عن النضر، قال الاسماعيلي: وتابعه أيضا يحيى بن سعيد وخالد بن الحارث ويزيد
بن هارون.
قلت: رواية
يحيى عند النسائي في " الكبرى " ورواية خالد عند الاسماعيلي عن أبي
يعلى، ورواية يزيد عند أحمد وتابعهم أيضا حجاج بن محمد وروح بن عبادة وروايتهما
عند أحمد أيضا، قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال
كذب سمعك أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه أي لم يصلح لقبول الشفاء
بل زل عنه، وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به
الاسهال؟ والجواب أن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: (بل كذبوا بما لم
يحيطوا بعلمه) فقد اتفق الاطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن
والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الاسهال يحدث من
أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها،
فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق
بطنه عن تخمة أصابته فوصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة
في نواحي المعدة والامعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من
أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها
الاخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو
تلك الاخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم
يفده في أول مرة لان الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم
يدفعه بالكلية وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا
يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ
بإذن الله تعالى.
وفي
قوله صلى الله عليه وسلم: " وكذب بطن أخيك " إشارة إلى أن هذا الدواء
نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم
أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فكان كذلك، وبرأ بإذن الله.
قال
الخطابي: والطب نوعان، طب اليونان وهو قياسي، وطب العرب والهند وهو تجاربي، وكان
أكثر ما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكون عليلا على طريقة طب العرب، ومنه
ما يكون مما اطلع عليه بالوحي.
وقد
قال صاحب " كتاب المائة في الطب " إن العسل تارة يجري سريعا إلى العروق وينفذ
معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعها حتى
يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهلا.
فإنكار
وصفه للمسهل مطلقا قصور من المنكر.
وقال
غيره: طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء لصدوره عن الوحي، وطب غيره أكثره
حدس أو تجرية، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام
بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول، وأظهر الامثلة في ذلك القرآن
الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره لقصوره في
الاعتقاد والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسا إلى رجسه ومرضا إلى مرضه،
فطب النبوة لا يناسب إلا الابدان الطيبة، كما أن شقاء القرآن لا يناسب إلا القلوب
الطيبة؛ والله أعلم.
وقال
ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال: أحدها
أنه حمل الاية على عمومها في الشفاء، وإلى ذلك أشار بقوله: " صدق الله "
أي في قوله: (فيه شفاء للناس) فلما نبهه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول، فشفي بإذن
الله.
الثاني:
أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الامراض كلها.
الثالث:
أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره.
الرابع:
يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه فإنه يعقد البلغم، فلعله شربه أولا بغير
طبخ انتهى.
والثاني
والرابع ضعيفان وفي كلام الخطابي احتمال آخر، وهو أن يكون الشفاء يحصل للمذكور
ببركة النبي صلى الله عليه وسلم وبركه وصفه ودعائه؛ فيكون خاصا بذلك الرجل دون
غيره، وهو ضعيف أيضا.
ويؤيد
الاول حديث ابن مسعود " عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن " أخرجه ابن
ماجه والحاكم مرفوعا، وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم موقوفا، ورجاله رجال الصحيح.
وأثر
علي " إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته من صداقها فليشتر به عسلا، ثم يأخذ
ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا شفاء مباركا " أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير
بسند حسن، قال ابن بطال: يؤخذ من قوله: " صدق الله وكذب بطن أخيك " أن
الالفاظ لا تحمل على ظاهرها، إذ لو كان كذلك لبريء العليل من أول شربة، فلما لم
يبرأ إلا بعد التكرار دل على أن الالفاظ تقتصر على معانيها.
قلت: ولا
يخفى تكلف هذا الانتزاع.
وقال
أيضا: فيه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى
فيها الداء.
وقال غيره: في قوله في رواية سعيد بن أبي عروبة " فسقاه فبرأ " بفتح الراء والهمز بوزن قرأ وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقولها بكسر الراء بوزن علم، وقد وقع في رواية أبي الصديق الناجي في آخره " فسقاه فعافاه الله " والله أعلم.
باب
لا صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ
الشرح:
قوله:
(باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن) كذا جزم بتفسير الصفر، وهو بفتحتين.
وقد
نقل أبو عبيدة معمر بن المثنى في " غريب الحديث " له عن يونس بن عبيد
الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس،
وهي أعدى من الجرب عند العرب.
فعلى
هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى.
ورجح
عند البخاري هذا القول لكونه قرن في الحديث بالعدوى.
وكذا
رجح الطبري هذا القول واستشهد له بقول الاعشى " ولا يعض على شرسوفة الصفر "
والشرسوف بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة ثم فاء: الضلع، والصفر دود يكون في
الجوف فربما عض الضلع أو الكبد فقتل صاحبه، وقيل: المراد بالصفر الحية لكن المراد بالنفي
نفي ما كانوا يعتقدونه أن من أصابه قتله، فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا
إذا فرغ الاجل.
وقد
جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث " لا صفر " قاله الطبري.
وقيل:
في الصفر قول آخر، وهو أن المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر وتستحل
الحرم كما تقدم في كتاب الحج، فجاء الاسلام برد ما كانوا يفعلونه من ذلك فلذلك قال
صلى الله عليه وسلم: " لا صفر"، قال ابن بطال: وهذا القول مروي عن مالك،
والصفر أيضا وجع في البطن يأخذ من الجوع ومن اجتماع الماء الذي يكون منه
الاستسقاء، ومن الاول حديث " صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم " أي
جوعة، ويقولون صفر الاناء إذا خلا عن الطعام، ومن الثاني ما سبق في الاشربة في
حديث ابن مسعود " أن رجلا أصابه الصفر فنعت له السكر " أي حصل له
الاستسقاء فوصف له النبيذ، وحمل الحديث على هذا لا يتجه، بخلاف ما سبق.
وسيأتي
شرح الهامة والعدوى كل منهما في باب مفرد.
الحديث:
حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ
صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا عَدْوَى وَلا صَفَرَ
وَلا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي
تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الاجْرَبُ
فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الاوَّلَ رَوَاهُ
الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ
الشرح:
قوله: (عن صالح) هو ابن كيسان، وقوله: " أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره " وقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان عند مسلم في هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة، وقوله في آخر الباب: " رواه الزهري عن أبي سلمة وسنان بن أبي سنان " يعني كلاهما عن أبي هريرة، وسيأتي ذلك في " باب لا عدوى " من رواية شعيب عن الزهري عنهما، وفيه تفصيل لفظ أبي سلمة من لفظ سنان، ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى.
باب
ذَاتِ الْجَنْبِ
الشرح:
قوله:
(باب ذات الجنب) هو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للاضلاع، وقد يطلق على ما
يعارض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر
والاضلاع فتحدث وجعا، فالاول: ذات الجنب الحقيقي الذي تكلم عليه الاطباء، قالوا
ويحدث بسببه خمسة أعراض: الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري.
ويقال
لذات الجنب أيضا وجع الخاصرة وهي من الامراض المخوفة لانها تحدث بين القلب والكبد
وهي من سيئ الاسقام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " ما كان الله ليسلطها علي
" والمراد بذات الجنب في حديثي الباب الثاني، لان القسط وهو العود الهندي كما
تقدم بيانه قريبا هو الذي تداوى به الريح الغليظة، قال المسبحي: العود حار يابس
قابض يحبس البطن ويقوي الاعضاء الباطنة ويطرد الريح ويفتح السدد ويذهب فضل
الرطوبة؛ قال: ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقي أيضا إذا كانت ناشئة عن
مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة.
الحديث:
حَدَّثَنِي
مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ
قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ
بِنْتَ مِحْصَنٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الاوَلِ اللاتِي بَايَعْنَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ بْنِ
مِحْصَنٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا قَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ فَقَالَ
اتَّقُوا اللَّهَ عَلَى مَا تَدْغَرُونَ أَوْلادَكُمْ بِهَذِهِ الاعْلاقِ
عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ
مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُرِيدُ الْكُسْتَ يَعْنِي الْقُسْطَ قَالَ وَهِيَ لُغَةٌ
الشرح:
حديث
أم قيس بنت محصن في قصة ولدها والاعلاق عليه من العذرة، وقد تقدم شرح ذلك وبيانه
قبل ببابين.
وقوله
في أوله: " حدثنا محمد " هو الذهلي، وقوله: " عتاب بن بشير " بمهملة
ومثناة ثقيلة وآخره موحدة وأبوه بموحدة ومعجمة وزن عظيم وشيخه إسحاق هو ابن راشد
الجزري وقوله في آخره: " يريد الكست، يعني القسط، قال وهي لغة " هو
تفسير العود الهندي بأنه القسط، والقائل " قال هي لغة " هو الزهري.
الحديث:
حَدَّثَنَا
عَارِمٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ قُرِئَ عَلَى أَيُّوبَ مِنْ كُتُبِ أَبِي
قِلابَةَ مِنْهُ مَا حَدَّثَ بِهِ وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا فِي
الْكِتَابِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ
وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَيُّوبَ
عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاهْلِ بَيْتٍ مِنْ الانْصَارِ أَنْ يَرْقُوا
مِنْ الْحُمَةِ وَالاذُنِ قَالَ أَنَسٌ كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ وَشَهِدَنِي أَبُو طَلْحَةَ
وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِي
الشرح:
قوله:
(حدثنا عارم) هو محمد بن الفضل أبو النعمان السدوسي، وحماد هو ابن زيد.
قوله:
(قرئ على أيوب) هو السختياني.
قوله:
(من كتب أبي قلابة منه ما حدث به ومنه ما قرئ عليه، فكان هذا في الكتاب) أي كتاب
أبي قلابة، كذا للاكثر.
ووقع
في رواية الكشميهني بدل قوله " في الكتاب ": " قرأ الكتاب " وهو
تصحيف ووقع عند الاسماعيلي بعد قوله: " في الكتاب ": " غير مسموع "
ولم أر هذه اللفظة في شيء من نسخ البخاري.
قوله:
(عن أنس) هو ابن مالك.
قوله:
(أن أبا طلحة) هو زيد بن سهل زوج والدة أنس أم سليم، وأنس بن النضر هو عم أنس بن
مالك.
قوله:
(كوياه وكواه أبو طلحة بيده) نسب الكي إليهما معا لرضاهما به، ثم نسب الكي لابي
طلحة وحده لمباشرته.
وعند
الاسماعيلي من وجه آخر عن أيوب " وشهدني أبو طلحة وأنس بن النضر وزيد بن ثابت".
قوله:
(وقال عباد بن منصور) هو الناجي بالنون والجيم، وأراد بهذا التعليق فائدة من جهة
الاسناد، وأخرى من جهة المتن، أما الاسناد فبين أن حماد بن زيد بين في روايته صورة
أخذ أيوب هذا الحديث عن أبي قلابة، وأنه كان قرأه عليه من كتابه، وأطلق عباد بن
منصور روايته بالعنعنة.
وأما
المتن فلما فيه من الزيادة، وهي أن الكي المذكور كان بسبب ذات الجنب، وأن ذلك كان
في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن زيد بن ثابت كان فيمن حضر ذلك.
وفي
رواية عباد بن منصور زيادة أخرى في أوله أفردها بعضهم، وهي حديث إذن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لاهل بيت من الانصار أن يرقوا من الحمة والاذن.
وليس
لعباد بن منصور - وكنيته أبو سلمة - في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وهو من
كبار أتباع التابعين، تكلموا فيه من عدة جهات: إحداها: أنه رمي بالقدر، لكنه لم
يكن داعية.
ثانيها:
أنه كان يدلس.
ثالثها:
أنه قد تغير حفظه.
وقال
يحيى القطان: لما رأيناه كان لا يحفظ.
ومنهم
من أطلق ضعفه.
وقد
قال ابن عدي: هو من جملة من يكتب حديثه.
ووصل
الحديث المذكور أبو يعلى عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن ريحان بن سعيد عن عباد
بطوله، وأخرجه عند الاسماعيلي كذلك، وفرقه البزار حديثين وقال في كل منهما: تفرد
به عباد بن منصور.
والحمة
بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم وقد تشدد، وأنكره الازهري، هي السم.
وقد
تقدم شرحها في " باب من اكتوى " وسيأتي الكلام على حكمها في " باب
رقية الحية والعقرب " بعد أبواب.
وأما
رقية الاذن فقال ابن بطال: المراد وجع الاذن، أي رخص في رقية الاذن إذا كان بها
وجع، وهذا يرد على الحصر الماضي في الحديث المذكور في " باب من اكتوى " حيث
قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، فيجوز أن يكون رخص فيه بعد أن منع منه، ويحتمل أن
يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمة، ولم يرد نفي الرقى عن غيرهما.
وحكى
الكرماني عن ابن بطال أنه ضبطه " الادر " بضم الهمزة وسكون المهملة
بعدها راء.
وأنه
جمع أدرة وهي نفخة الخصية، قال: وهو غريب شاذ انتهى.
ولم
أر ذلك في كتاب ابن بطال، فليحرر.
ووقع
عند الاسماعيلي في سياق رواية عباد بن منصور بلفظ " أن يرقوا من الحمة، وأذن
برقيه العين والنفس " فعلى هذا فقوله " والاذن " في الرواية
المعلقة تصحيف من قوله " أذن " فعل ماض من الاذن، لكن زاد الاسماعيلي في
رواية من هذا الوجه " وكان زيد بن ثابت يرقى من الاذن والنفس " فالله
أعلم.
وسيأتي
بعد أبواب " باب رقية العين " وغير ذلك.
وقوله: " رخص لاهل بيت من الانصار " هم آل عمرو بن حزم، وقع ذلك عند مسلم من حديث جابر، والمخاطب بذلك منهم عمارة بن حزم كما بينته في ترجمته في كتاب الصحابة.
باب
حَرْقِ الْحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ
الشرح:
قوله:
(باب حرق الحصير) كذا لهم، وأنكره ابن التين فقال: والصواب إحراق الحصير لانه من
أحرق، أو تحريق من حرق، قال فأما الحرق فهو حرق الشيء يؤذيه.
قلت: لكن
له توجيه، وقوله: " ليسد به الدم " هو بالسين المهملة أي مجاري الدم، أو
ضمن " سد " معنى قطع وهو الوجه، وكأنه أشار إلى أن هذا ليس من إضاعة
المال لانه إنما يفعل للضرورة المبيحة، وقد كان أبو الحسن القابسي يقول: وددنا لو
علمنا ذلك الحصير مما كان لنتخذه دواء لقطع الدم، قال ابن بطال: قد زعم أهل الطب
أن الحصير كلها إذا أحرمت تبطل زيادة الدم، بل الرماد كله كذلك، لان الرماد من
شأنه القبض، ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث " التداوي بالرماد " وقال
المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد كان معلوما عندهم، لا سيما إن كان الحصير من ديس
السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجرح، وطيب الرائحة يذهب
بزهم الدم، وأما غسل الدم أولا فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر، أما لو كان
غائرا فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه.
وقال
الموفق عبد اللطيف: الرماد فيه تجفيف وقلة لذع، والمجفف إذا كان فيه قوة لذع ربما
هيج الدم وجلب الورم.
ووقع
عند ابن ماجه من وجه آخر عن سهل بن سعد " أحرقت له - حين لم يرقأ - قطعه حصير
خلق فوضعت رماده عليه".
الحديث:
حَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ
عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ لَمَّا كُسِرَتْ
عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَةُ
وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ
بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ
فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلام الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ
كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَأَ الدَّمُ
الشرح:
تقدم
شرح حديث الباب، وهو حديث سهل بن سعد في غسل فاطمة وجه النبي صلى الله عليه وسلم
من الدم لما جرح يوم أحد، في كتاب الجهاد.
وقوله
في آخر الحديث " فرقأ " بقاف وهمزة أي بطل خروجه.
وفي
رواية " فاستمسك الدم".